بقلم الأستاذ حميد طولست
أثارت قضية استيراد المواشي إلى
المغرب، والتي رافقتها شكوك واسعة حول الشفافية وطرق تدبيرها، جدلًا حادًا في
الأوساط السياسية والإعلامية، بعدما خرج الوزير المنتدب المكلف بالميزانية، السيد
فوزي لقجع، في تصريح صريح من قبة البرلمان، ليعترف بأن الحكومة "أخطأت
التقدير" وأن العملية لم تكن بالنجاح المتوقع.
غير أن هذا الاعتراف لم يصمد طويلًا،
إذ سارع وزير الفلاحة، السيد محمد صديقي، إلى نفي وجود أي خلل، مؤكدًا أن عملية
الاستيراد "نجحت وأتت أكلها"، وهو الموقف ذاته الذي تبناه رئيس مجلس
النواب، السيد رشيد الطالبي العلمي، في رده على
نزار بركة، وزير ...الأمين العام لحزب الاستقلال، الذي أثار الموضوع بقوة،
ووجّه انتقادات لاذعة حول كلفة العملية وأثرها المحدود على السوق.
إن هذا التناقض في المواقف الرسمية
يثير أكثر من علامة استفهام. كيف يمكن لعضوين في الحكومة أن يقدّما روايتين
متباينتين حد التناقض، بخصوص عملية تدخلت فيها أموال الدعم العمومي، وكان من
المفترض أن تخفف من أزمة ارتفاع أسعار اللحوم؟
الأدهى من ذلك، أن التصريحات لم تكن
مصحوبة بأي معطيات دقيقة حول عدد رؤوس الماشية المستوردة، أو الشركات المستفيدة،
أو المبالغ المدفوعة في إطار الدعم. وفي غياب الأرقام، يبقى المجال مفتوحًا أمام
التأويل والتشكيك.
ورغم حجم الجدل وتداول مصطلحات مثل
"فضيحة" و"إخفاق حكومي"، إلا أن البرلمان لم يتحرك – حتى الآن
– لتفعيل أحد أبرز أدواته الرقابية: لجنة تقصي الحقائق.وفقًا للفصل 67 من الدستور
المغربي، يمكن للبرلمان تشكيل لجنة لتقصي الحقائق بخصوص أي قضية تثير الرأي العام
أو ترتبط بتدبير الشأن العام أو المال العمومي. فكيف تُطوى صفحة جدل من هذا الحجم
دون أدنى محاولة برلمانية للتحقيق؟
أليس من الواجب فتح ملف استيراد المواشي،
والتحقيق في المعايير التي تم اعتمادها لتوزيع الدعم، ومعرفة إن كان المال العام
قد صُرف بطريقة سليمة وذات مردودية؟
وما يزيد من حدة الإحباط الشعبي هو
الصمت غير المبرر للعديد من الأحزاب السياسية، حتى تلك التي تُحسب على المعارضة.
باستثناء تدخل محدود من طرف السيد نزار
بركة وبعض المداخلات الجانبية، لم تسجل أي مبادرة حزبية للمطالبة بتقصي الحقائق أو
استدعاء المعنيين داخل اللجان البرلمانية.
ولا شك أن هذا الصمت يدفع إلى التساؤل:
هل نحن أمام تواطؤ سياسي غير معلن حفاظًا على توازنات الأغلبية؟ أم أن الأحزاب
أضحت عاجزة عن أداء دورها الرقابي، مكتفية بالحضور الشكلي داخل المؤسسات؟
وبعيدًا عن الحسابات السياسية، فإن
مسؤولية النخب والمؤسسات اليوم هي زرع الثقة بين المواطن والدولة. ولا يمكن أن
تتحقق هذه الثقة دون محاسبة شفافة وتقصٍ جدي للحقيقة، خاصة حين يتعلق الأمر ببرامج
عمومية كان يُفترض أن تخفف من عبء الغلاء والمعاناة الاقتصادية للمواطنين.
إن تشكيل لجنة برلمانية لتقصي الحقائق
حول هذا الملف، لا يجب أن يُنظر إليه كمجرد رد فعل سياسي، بل كخطوة دستورية ضرورية
لإعادة الاعتبار للرقابة المؤسساتية، وصونًا للمال العام من أي شبهة سوء تدبير أو
استغلال نفوذ.
إن "فضيحة استيراد المواشي" ليست مجرد خلل إداري عابر، بل مرآة تعكس خللاً أعمق في تدبير الشأن العام، وتطرح بحدة سؤالًا سياسيًا وأخلاقيًا: من يحاسب من في هذا البلد؟