بقلم الأستاذ حميد طولست
في زاويةٍ منسية من مشهد التعليم، حيث تختلط طباشير السنوات بأنين المفاصل، جلس أستاذ خمسيني وسط خمسين تلميذًا، محاطًا بجدران فصلٍ خافت الإضاءة، وواقعٍ أثقل من الكلام. ثلاثٌ وثلاثون سنةً قضاها في رحاب القسم، بين القرى والمداشر، بين صقيع الشتاء ولهيب الصيف، دون كللٍ ولا انتظار لثناءٍ أو مجد.
وفي صباحٍ اعتيادي، دخل أحد المفتشين
الفصل فجأة، يراقب ويُقيّم، ثم خرج ممتعضًا، ليعقد جلسة مغلقة مع الأستاذ في مكتب
المدير. جلس المتابع غاضبًا، وقال بلهجة لا تخلو من اللوم:
"كنت أظن أن سنواتك الطويلة
وتجربتك الواسعة ستجعل من حصتك نموذجًا يحتذى، لكنني فوجئت بأداءٍ باهت لا يرقى
لما كنت أطمح إليه."
رفع الأستاذ عينيه بصعوبة، وأجاب بصوتٍ
واهن:"سيدي المحترم، ما كان عليّ أن أفعله؟ أقف أكثر؟ أكتب على السبورة كما
كنت أفعل في شبابي؟ أتجول بين الصفوف؟ لقد بلغ بي الروماتيزم ما جعل الوقوف
مؤلمًا، والمشي عذابًا، والكتابة عبئًا. لم تعد قدماي تحتملان الطريق، ولم تعد
ذاكرتي تقوى على التفاصيل الصغيرة... نسيت جزءًا من الدرس؟ نعم، كما نسيت هذا
الصباح أقراص دواء السكر، والضغط، والقلب. وكل المراض التي طرقت أبوابي، بعد أن
طرقني التعليم بلا رحمة طوال عقود."
لم يكن المفتش يعلم –أو لعله تجاهل– أن
الفصل الدراسي الذي زاره يفتقر إلى أبسط شروط التعليم: مصابيح معطلة، نوافذ
مكسورة، سبورة قديمة، وتلاميذ متراصّون في قاعة أقرب إلى الزنزانة منها إلى فضاء
للتعلم. ومع ذلك، يُحاسب المعلم العليل وكأنه يعمل في مدرسة نموذجية، بكامل
الوسائل والدعم.
"عاتبتني على قلة استخدام
التكنولوجيا... فهل رأيت أنت الحواسيب؟ هل جربت الكتابة في سبورة بالكاد تُرى؟ هل
جربت الوقوف أمام خمسين تلميذًا وأنت تشكو من ألم الركبتين وانخفاض النظر وتورم
القدمين؟"
أراد المفتش أن يرفع تقريرًا مهنيًا عن
أداء المعلم، لكنه نسي أن ينصت إلى الجانب الإنساني. فكم من تقارير أعدّت، وكم من
تقييمات طُبقت، دون أن يُسأل صاحبها عن آلامه، عن ظروفه، عن احتياجاته، عن كرامته!
إنها ليست قصة فرد، بل حكاية آلاف
المعلمين الذين بلغوا من العمر عتيًّا، وما زالوا يُطلب منهم العطاء وكأنهم لم
يهرموا. معلمون أنهكهم الزمن، وسرقتهم الوظيفة من صحتهم، ثم لم تترك لهم حتى لحظة
وداع كريمة.
رسالة إلى من يهمه الأمر
التقويم التربوي لا ينبغي أن يكون مجرد لوائح ومعايير جامدة، بل هو قبل كل شيء فعلٌ إنسانيّ، يستند إلى الرحمة، والتقدير، والتفهم. فهل آن الأوان لأن نكرّم من أفنوا أعمارهم في التعليم، بدل أن نحمّلهم مسؤولية واقعٍ لم يكونوا هم من صاغه؟