بقلم الأستاذ حميد طولست
الأسرة هي الوحدة الاجتماعية الأولى
التي تحتضن الطفل منذ ولادته، وهي البيئة التي يتلقى فيها أولى دروس الحياة،
فتتشكل شخصيته وتُرسم ملامح مستقبله. وعندما يُرزق الوالدان بطفل، تتدفق إلى
خاطريهما أحلام وآمال كثيرة، لكنها سرعان ما تتبدد عندما يُشخص الطفل باضطراب
التوحد، فتتبدل كل الأحلام بصدمة نفسية عميقة، تترك أثرها على الوالدين، وخاصة
الأم، التي تحمل العبء الأكبر في رحلة التعامل مع هذه الإعاقة.
التي غالبًا ما تكون لحظة التشخيص نقطة
التحول المفصلي في حياتها وحياة الأسرة. فالاضطراب النمائي الغامض، الذي قد لا
تظهر علاماته في السنوات الأولى من عمر الطفل، تجعل تعيش حالة من التوتر والقلق
الدائم ، وردود الفعل الأولية المتفاوتة
بين الاكتئاب الشديد والحزن العميق ، والإنكار، والشعور بالذنب، والخجل، و
الأمل والخوف ، وغيرها من المشاعر المتناقضة ، التي تصبح الأم أسيرة لها وتجعلها
تعاني مستويات مرتفعة من الضغط النفسي ، الذي لا تقتصر على لحظة التشخيص، بل تمتد
إلى رحلة طويلة من التحديات اليومية، حيث تجد نفسها أمام مسؤولية ثقيلة تتطلب منها
الصبر، والقوة، والتعلم المستمر لفهم كيفية التعامل مع طفلها التوحدي ، وضمان
مستقبله في ظل غياب الدعم الكافي، الذي تعيشه جل
أمهات أطفال التوحد في بلادنا، وتحت وطأة قلق دائم بشأن مستقبل طفلها، وخوف
من نظرة المجتمع، وشعور بالعزلة الاجتماعية. الذي تجد الكثير من تجد الأمهات
أنفسهن عالقات بين ضغوط الحياة الأسرية ومتطلبات رعاية الطفل، مما يؤدي إلى اختلال
في التوازن النفسي والاجتماعي ، الذي لا يقتصر تأثيره النفسي والاجتماعي على الأم
فحسب، بل يمتد ليشمل جميع أفراد الأسرة. ويدفع إلى تغيير أدوار وتوقعات أفرادها ،
مما قد يخلق توترًا بين الأزواج أو ينعكس على الأشقاء الذين يجدون أنفسهم في بيئة
تحتاج إلى مزيد من التفهم والصبر. وفي كثير من الحالات، قد يؤدي الضغط النفسي
المستمر إلى اضطرابات عاطفية داخل الأسرة، مما يضاعف العبء على أمهات أطفال التوحد
اللواتي رغم معاناتهن الكبيرة والعميقة، تجدهن يتجلدن بالصبر، ويخفين ألامهن خلف
ابتسامات صامتة وحتى باهتة، ويواصلن النضال من أجل أطفالهن دون أن يفقدن الأمل،
ويبحثن عن كل فرصة تمكنهن من تحسين حياة أبنائهن، متجاهلات نظرات الشفقة أو العتب
التي قد يواجهنها من المجتمع الذي هن في حاجة إلى دعمه الحقيقي ، الذي
لا يقل عن الاعتراف بمعاناتهن مع الأطفال التوحديين ، هو الخطوة الأولى نحو
تقديم الدعم النفسي والمجتمعي لهن. فهؤلاء الأمهات بحاجة إلى شبكات دعم، وبرامج
إرشادية، ورعاية نفسية متخصصة تساعدهن على التكيف مع وضعهن، وتخفف عنهن الأعباء
النفسية والاجتماعية. كما أن توفير بيئة تعليمية وتأهيلية مناسبة لأطفالهن
التوحديين يمكن أن يكون عاملاً مساعدًا في تقليل الضغط النفسي عن الأمهات.
ختامًا، إن التوحد ليس مجرد تحدٍ يواجه الطفل المصاب به، بل هو رحلة شاقة تخوضها الأم بكل ما تملك من صبر وحب ، وفي الختام لابد من القول إن التعامل مع عالم الأطفال التوحديين يجسد إنسانية الإنسان في أروع صورها ومعانيها، ويؤكد بما لا يدع مجالاً للشك بأن الرحمة والعطف والحنان دماء تسري في عروق من يتعامل معهم ،لأن التعامل معهم يحتاج فعلاً إلى حنان الأم وصبر أيوب وقلب ملاك. فرفقًا بأمهات يحملن على عاتقهن أعباء لا يد لهن فيها، وتحياتي لكل أم أطفال توحدي.