بقلم الأستاذ
حميد طولست
في مسيرة
الحياة، كلما تراكمت تجارب واتسعت الرؤى، نجد أن دائرة العلاقات الاجتماعية تتقلص
تدريجياً. ليس ذلك تكبُّراً ولا انعزالاً، بل لأن التجارب تصقل معايير الإنسان في
انتقاء الأشخاص وكيفية التعامل معهم. غير أن المدهش في الأمر هو أن القطيعة التي
تحدث فجأة بين الأزواج، الإخوة، الأصدقاء، وحتى الأقارب، بعد سنوات طويلة من
العشرة، تثير تساؤلات جوهرية: لماذا لم يحدث الفراق منذ البداية؟ وما الذي يجعل
العلاقة تنهار بعد سنوات من الاستمرار؟
الجواب يكمن في
مفهوم بسيط لكنه حاسم في حياة البشر، وهو "الرصيد". ليس ذلك الرصيد
المادي الذي نعرفه في البنوك، بل هو رصيد معنوي يتراكم عبر التعاملات المتبادلة
بين الأفراد. كلما كان التعامل راقياً ومبنياً على الاحترام والتقدير، زاد الرصيد.
وكلما كانت التصرفات سيئة وغير لائقة، تآكل ذلك الرصيد وانخفض. ومع الأسف، فإن بعض
الأشخاص، حين يشعرون بمحبة الآخرين لهم وتقديرهم، يسيئون التصرف دون أن يدركوا
أنهم يسحبون من رصيدهم لدى الآخرين، حتى يصل إلى الصفر.
لماذا تنهار
العلاقات بعد طول العشرة؟
قد يتساءل
البعض: إذا كان الطرفان قد تحمّلا بعضهما لسنوات، فلماذا ينفصلان فجأة؟ الجواب
بسيط؛ لأن أحد الطرفين استنفد كامل رصيده لدى الآخر، ولم يعد هناك مجال للمسامحة
أو التجاوز في علاقة مبنية على التوازن، الذي إذا أهمل أحد الطرفين ذاك التوازن و
تمادى في تجاوزه بسلوك غير اللائق، فإنه يستهلك الرصيد شيئاً فشيئاً دون أن يدرك،
حتى يأتي اليوم الذي يجد فيه الطرف الآخر نفسه غير قادر على الاستمرار في التحمل.
ولكن يمكن ، في
بعض الحالات، أن يقرر أحد الأطراف منح العلاقة فرصة أخرى عبر إعادة شحن الرصيد.
كما يحدث غالباً بين الأزواج من أجل الأبناء، أو بين الإخوة لصلة الرحم، أو بين
الأصدقاء بسبب العِشرة الطويلة. لكنها محاولات لا تنجح دائماً، فيستنزف الطرف الذي
لا يقدر الفرصة المعطاة له رصيده بالكامل، ويكون سببا في إنهاء العلاقة بلا رجعة،
وبدون ندم.
كيف نحافظ على
رصيد علاقاتنا؟
العلاقات ليست
مجرد سنوات تُحسب، بل هي مشاعر تتراكم أو تتلاشى بمرور الوقت. لا تعتقد أن طول
العلاقة وحده كفيل باستمرارها. حافظ على رصيدك بالمودة، والاحترام، وحسن الخلق،
والبذل والعطاء، ولا تنسَ أن الجميع يستحق الاحترام، وأن العلاقات الناجحة تقوم
على الوعي بأن كل تصرف، مهما بدا صغيراً، يضيف أو يخصم من رصيدك لدى الآخرين.
فاختر أن تكون ممن يزيدون أرصدتهم، لا ممن يستنزفونها بلا وعي وصدق المصريون في
قولهم : "مافيش حد أحسن من حد".
العلاقات
الحقيقية لا تُقاس بطول المدة، بل بجودة التعامل. وكما أن الرصيد المالي يحتاج إلى
إدارة وحسن تصرف، فإن الرصيد العاطفي يحتاج إلى وعي وتقدير. فليكن تعاملنا مع
الآخرين قائماً على الاحترام والصدق والمودة، حتى لا نجد أنفسنا يوماً بلا رصيد،
وبلا علاقات تستحق الاستمرار.
وأختم هته المقالة بما رد به الفيلسوف البريطاني (برتراند راسل) في إحدى أواخر مقابلاته -التي أجريت وهو في عامه التسعين- سُئل عن الرسالة التي يوجهها للأجيال القادمة فأجاب إجابة ربما تكون هي ما نحن بحاجة فعلًا لتعلمه ومعرفته. قال: الشيء الأخلاقي الذي أتمنى قوله لهم هو بسيط جداً. أود أن أقول: الحب حكمة والكراهية حُمق. في هذا العالم الذي يترابط أكثر وأكثر بشكل وثيق، علينا أن نتعلم التسامح مع بعضنا البعض. علينا أن نتعلم التصالح مع حقيقة أن بعض الناس قد يقولون ما لا نحب. بهذه الطريقة فقط نستطيع أن نعيش معاً. ولو أردنا العيش معاً -لا الموت معاً- فإنه يتوجب علينا تعلم شيء من الإحسان والتسامح، الأمر الذي يعتبر حيوياً للغاية لاستمرار الحياة البشرية على هذا الكوكب.