adsense

/www.alqalamlhor.com

2025/01/24 - 5:44 م

بقلم أميمة محفوظ،/ باحثة مغربية في العلوم الاجتماعية / وكاتبة حرة

منذ الأزل كانت الطبيعة الملاذ الأول للإنسان، الأم التي احتضنته ومنحته كل مقومات الحياة: من ماء عذب يروي عطشه، وهواءً نقيًّا ينعش رئتيه، وطعام يقيه الجوع. ولكن الإنسان، بدلًا من أن يبادلها الحب والاحترام، اختار أن ينقلب عليها ويصبح عدوًا لها. لقد قرر خوض معركة غير متكافئة ضد تلك التي منحته الحياة.

في العصور الماضية، كان الإنسان يتعايش بانسجام مع الطبيعة. لم تكن هناك مصانع تلوث الهواء بالدخان والغازات الضارة، ولا سيارات تلوث الجو بالغازات السامة. كان الماضي أقرب إلى الحقيقة، حقيقة أن الإنسان جزء من الطبيعة وليس سيدًا عليها. إلا أن مسيرة التقدم التي انطلقت في القرن 19 حملت معها شرورًا لم تكن الطبيعة مستعدة لمواجهتها. التقدم، على الرغم من ما يحققه من تطورات كبيرة، لم يكن يومًا خالصًا للخير. فالتاريخ البشري يتقدم بالمحركين معًا: الخير والشر. من قلب الحروب، مثلًا، خرجت الابتكارات؛ الطائرات التي اخترعت لنقل البشر بدأت كآلات تدمير. وفي كل مرة يتقدم الإنسان خطوة نحو "التحضر"، يخسر جزءًا من ارتباطه بجذوره الطبيعية. ومع تسارع التطور، بات الإنسان يستهلك أكثر مما يحتاج، ويدمر أكثر مما يُعمر. حرائق الغابات المشتعلة في كل صيف، التي تلتهم آلاف الهكتارات من الأشجار، ليست إلا دليلًا صارخًا على ذلك. انقراض الحيوانات بفعل الصيد الجائر مثال آخر؛ فالكائنات التي كانت تشارك الإنسان الأرض باتت تختفي واحدًا تلو الآخر. لكن الطبيعة، تلك الأم الصبورة، تتحمل بصمت. تتحمل لأنها كالأم التي تحب أبناءها بلا شروط. إلا أن لكل صبرٍ حدودًا، وعندما تنفجر الطبيعة، لن ترحم أحدًا. لقد بدأت بالفعل تُرسل رسائلها التحذيرية: الفصول انقلبت، والأعاصير تضاعفت قوتها، والجفاف يضرب بقسوة. إنها تخبرنا أن هذا العالم لن يستمر إن لم نصحُ من غفلتنا. يا لَحمق الإنسان! ألا يعلم أن لصبر الأم حدودًا؟ ألا يدرك أن الطبيعة التي احتضنته بكل سخاء، وقدمَت له الأمان والطعام والمأوى، يمكن أن تتحول في لحظة انفجار إلى قوةٍ هائلة لا تُبقي ولا تذر؟ إن الطبيعة، تلك الأم التي أطعمت الإنسان من خيراتها بلا مقابل، وسقته من أنهارها دون انقطاع، تُقابل اليوم بالجحود والإيذاء. لقد باتت تُعادى وتُستهلك بلا شفقة، وكأنها عدوٌ وليست مصدر الحياة. ولكن، هل يظن الإنسان أن هذا العبث سيمر بلا عواقب؟ إن صبر الطبيعة ليس أبديًا، وما نشهده اليوم من كوارث بيئية وجوية هو أولى علامات انهيار هذا الصبر. الطبيعة قد بدأت في الرد. لكن الإنسان، في غطرسته العمياء، لا يزال يتجاهل هذه التحذيرات. يرى نفسه سيدًا على الأرض، بينما هو في الحقيقة مجرد ضيف ثقيل.

إنها الطبيعة تُعيد التوازن، بطريقة لا تأبه بمكانة الإنسان ولا بقوته لكنها تفعل ذلك بيدٍ قاسية لا تعرف الرحمة. يدٌ تضرب بلا تمييز، لا تعرف الصغير من الكبير، ولا تهتم بمن يملك ومن لا يملك. الطبيعة حين تنتقم، لا تسأل عن الأسماء ولا المناصب؛ انتقامها عادل وشامل، يجرف معه الجميع بلا استثناء. ومع ذلك، يستمر الإنسان في هذا النهج المدمر، كأنه أعمى لا يرى العواقب. ألا يدرك أن هذه الأفعال ليست مجرد تحدٍ للطبيعة، بل قرارٌ بإفناء نفسه. الطبيعة ليست مجرد مصدر للرزق، بل هي الروح الحية التي تحفظ هذا الكوكب. ولكن أنانية الإنسان تغلق عينيه، وجشعه يطغى على ضميره، ليصبح غير قادر على رؤية الحقيقة.

كانت الطبيعة دائمًا تعطينا دون أن تأخذ، تحمينا دون أن تشتكي، وتغفر لنا دون شروط. لكن صبرها بدأ ينفد. من يعتقد أن صبرها لا ينتهي، فهو واهم. عندما تبدأ الطبيعة في الرد، لن تترك أحدًا بعيدًا عن غضبها، وعندها سيكون الندم بلا فائدة.