بقلم : عبد القادر العفسي
في زاوية نائية منسية من البلاد، حيث
يتلاقح ! كل شيء و تلتقي الجغرافيا باللامبالاة و بين أطلال الزمن المنسي وخرائط
الفوضى حيث يدير الوقت نفسه ظهره ، يُحكم مصير بلدة بأيدي رئيس بلدية يصف نفسه بالفيلسوف لم يختاره الناس، بل اختارهم هو ليكونوا
الجمهور المثالي لمسرحيته العبثية ، ذكر يعكس مزيجًا غريبًا من الفلسفة والفساد،
الهشاشة والعظمة الوهمية، والعبودية المطلقة لمن يقودون الخيوط من وراء الستار،
كائن حول البلدة إلى مسرح عبثي، حيث تُكتب كل يوم فصل جديد من دراما بلا حبكة ولا
نهاية .ّ
فلسفة الوهم: بين العظمة والهشاشة و
الأمل المُعلب
رئيسنا هذا بتلك التوصيف لا يرى الوعد
مجرد كلمة تُقال، بل فنًا يجب إتقانه بغباء مركب في كل خطاب، كان يتحدث كفيلسوف
عظيم ، قالها يوم تعيينه ليبهر الحاضرين بوعوده :" الأمل هو الجسر بين الماضي
والمستقبل " ، أقنع خياله أنه يتحدث بلغة الفلاسفة اللامتناهية ، ثم أردف و
هو يتحدث عن المشاريع كأنها مزهرية وسط
الحطام بل تحفة فنية تحمل معاني باطنية ، فقال عن حديقة البلدة التي ذبلت قبل
افتتاحها : "النباتات تعكس دورة الحياة، دعوها تموت لتُعلمنا قيمة الفناء
" ، وبينما كان يغرق في أحلامه الفلسفية، كانت البلدة تغرق في حفر النهب و
دهن سير يسير و تحويل التفويضات الى مجال الاغتناء و الأقسام إلى محطات الحلب و
الإسهال في طلبات السند و سرقة النساء لمستحقاتهم و إغراق البلدية بالخليلات لكل
فصيل و متخادم حتى أضحوا مفاتيح الحل والعقد...
ومع كل وعد جديد كان يتقيأ به ، كان
سكان التَلاقح! يُسحرون بكلماته المرتوية بالأحرزة و العزائم و الطلاسم المعلقة !
حتى أدركوا أن الإيمان وحده لا يُصلح الإدارة و الانتدابات القميئة و لا يرمم
الشوارع و لايضيء الشوارع ... لكن رئيسنا المُعين كان يُخبر الجميع و هو محاط بأهل
اللقط من مكتبه قوله : "حتى الظلام ، إن تأملتموه طويلا يصبح نورا داخليا
" ، حقا انه يُحدث نفسه بقناعة على أنه فيلسوف بل تحدث مؤخرا أن مهمته
الوحيدة : " هي المهرجانات و معارض الكتب " قائلا على نفسه : لن تجدوا
رئيسا مثلي يسير بكم الى المستقبل " نعم ! لكنه كان يقصد مستقبل المدينة
تماما كحفرة بلا قاع !.
ربما ، ربما هو يُصدق نفسه أحيانًا، لكنها أي تلك اللحظات
العارضة التي تغذيها هشاشته النفسية، حتى ينسى أنه مجرد ترس صغير في آلة فساد
ضخمة، خاضع لأوامر من جعلوه على رأس التدبير ليكون واجهة تتلقى الانتقادات و هو
مستمتع بينما يستمتعون هم بالغنائم ، بل
هو مجرد دمية في يد من يجرون خيوطه من خلف الكواليس.
المشاريع: صورة النفس المضطربة
كل اللامشروع الذي أطلقه لم يكن سوى
انعكاس لحالة رئيس البلدية النفسية المتأرجحة من مدرسة بلا سقف إلى مكتبة بلا كتب،
قراراته تنبع من ذهن مليء بالفوضى ، لكنه لم يكن يفعل ذلك عن عمد، بل عن ضعف كأنه
شبه بطفل يحاول إبهار والديه برسمة عشوائية ينفذ أوامر السادة ، و يحاول كل مرة ان
يقنع نفسه انه صاحب القرار و في كل فشل يتحدث بحكمته الزائفة بقوله : "الوقت
هو المعلم الأكبر ، فلا تستعجلوا الثمار قبل أن تنضج " !
يعتبر أن العجلة من الشيطان و و ورقة
التسليم للتجزئات قبل بنائها تقع ضمن هذا التصنيف ، بل فلسفته امتدت عندما سئل عن
الميزانية بين التطعيم و طلبات السند و قولبة الصفقات بين زملائه ...أجاب : "
أن المال طاقة ، و الطاقة لا تفنى ولا تخلق من العدم لكنها تنتقل الى جيوب أخرى
لتخدم دائرة الحياة " .
العبودية المقنعة: رئيس بلا إرادة
من الخارج أي الظاهر ، يبدوا رئيس البلدية كقائد قوي ! في عمق نفسه من
الداخل كان خاضعًا بالكامل غارقًا في عقدة النقص والخوف من فقدان مكانه و رغباته
المنحرفة ... هذا الخوف الذي دفعه إلى محاولة بناء صورة زائفة عن القوة، بينما كان
يرتعش داخليًا مع كل قرار يُفرض عليه أسياده الذين أوصلوه إلى الكرسي ، يتحكمون
بكل خطوة يخطوها وهو يعرف أنه مجرد واجهة، لكنه يعيش الدور ! أعتقد أنه كان يحلم
يومًا أن يكون قائدًا حقيقيًا، لكن طبيعته الهشة جعلته فريسة سهلة لمن استغلوه،
محولين إياه إلى أداة طيعة تُنفذ وتُبرر، دون أن يملك الجرأة على السؤال أو يحاول
أن يخرج عن النص ...
كلما واجه أزمة، كان يعود إلى مكتبه
كطفل مذعور ينتظر تعليمات جديدة ، حتى
قراراته الصغيرة، كتحديد لون مصابيح الشوارع، لم تكن تُتخذ دون موافقة ممن يشغلونه
، لكنه كان يجيد بغباء اللقيط إخفاء ضعفه أمام الناس، قائلاً : " القوة ليست
في القرار، بل في الحكمة " .
المصير العبثي: البلدة على حافة
النسيان
مع مرور الوقت، أصبحت البلدة صورة
مصغرة لحالة رئيسها النفسية: متدهورة، بلا هوية، تتلقى الضربات دون أن تُبدي أي
مقاومة أما هو، يعلم أن نهايته ستكون مثل البلدة تمامًا: تُهمل وتُنسى عندما تنتهي
فائدته ، رئيس البلدية هذا لم يكن مجرد مثال على الفساد، بل على هشاشة النفس
البشرية عندما تتعرض للضغوط، وعلى ما يحدث عندما تُعطى السلطة لمن لا يملك القوة
النفسية لتحملها ، البلدة ضاعت لأنه ضاع، والسؤال الذي بقي في الأذهان: هل كان
يمكن إنقاذه قبل أن يُسقط البلدة معه ؟
وفي الحقيقة، روحه هي الضحية الأولى،
هشاشته النفسية جعلته لعبة في يد من يسيطرون عليه، فحوّل البلدة إلى مشهد كئيب
يُلخص عبثية السلطة عندما تُمنح لمن لا يستطيع تحملها ؟
السخرية الكبرى: فلسفة النهاية
رئيس البلدية ليس مجرد مسؤول، بل رمز
لفلسفة كاملة: كيف يمكنك أن تصنع الوهم وتُديره كأنه حقيقة؟ كيف تُحوِّل الخراب
إلى أداة إقناع ؟ وربما، الأهم، كيف تجعل الناس يصدقون أن الفشل هو مجرد خطوة على
طريق النجاح ؟
في النهاية، لم تكن هذه القصة عن فساد
أو فشل فقط، بل عن مأساة إنسانية. رئيس البلدية كان رمزًا لعصر كامل من الضعف
البشري كائن عاش بين وهم القوة وحقيقة العبودية، بين أحلامه الفلسفية وواقعه
المأساوي ؟
وبينما ينظر السكان إلى بلدتهم التي
أصبحت أشبه بأطلال، يبقى سؤال واحد يطاردهم : " هل المشكلة في من يحكمنا، أم
في من صنع الحاكم " .
إنها مسرحية بلا أبطال، حيث الكل
ضحايا... والجميع متهمون .