ظاهرة استغلال الأطفال في التسول، وتنظيف واجهات السيارات عند المدارات الطرقية
بمدينة فاس، أصبحت من أكثر المشاهد إيلاما على الصعيد الاجتماعي والإنساني، فهي
ليست مجرد مشكلة عابرة أو نتيجة لظروف آنية؛ بل هي انعكاس لمجموعة من التحديات
العميقة التي تواجه المجتمع.
هذه الظاهرة تضع مستقبل الأطفال على المحك، وتجعلهم ضحايا للظروف الاقتصادية
والاجتماعية والسياسية التي تزيد من هشاشتهم وتعرضهم للاستغلال.
إن من أسباب هذه الظاهرة انتشار الفقر والتهميش الاجتماعي، حيث تعيش العديد
من الأسر بمدينة فاس في أوضاع اقتصادية صعبة، تجعلها غير قادرة على تلبية
احتياجاتها الأساسية، الفقر يحاصر هذه العائلات ويدفعها في كثير من الأحيان إلى
الاعتماد على أطفالها كمصدر دخل، مهما كان الثمن، هؤلاء الأطفال، الذين يجب أن
يكونوا في المدارس يتعلمون ويستعدون للمستقبل، يُدفعون إلى الشوارع ليواجهوا حياة
قاسية مليئة بالمخاطر.
التفكك الأسري أيضا له دور كبير في هذه المشكلة، حينما يغيب أحد الوالدين
بسبب الوفاة أو الطلاق، أو في حالة وجود صراعات داخل الأسرة، يصبح الطفل أكثر عرضة
للتشرد والاستغلال، الأطفال الذين يفقدون الدعم العاطفي والأسري يجدون أنفسهم بلا
حماية، مما يجعلهم صيدا سهلا للشبكات الإجرامية التي تستغلهم في التسول أو الأعمال
الشاقة.
إضافة إلى ذلك، فإن ضعف تطبيق القوانين المتعلقة بحماية الأطفال يزيد من
تفاقم الوضع؛ ورغم وجود نصوص قانونية تمنع استغلال الأطفال، إلا أن غياب الرقابة
الفعالة والآليات الرادعة يجعل هذه القوانين مجرد حبر على ورق، فكثيرا ما نشاهد
الأطفال في المدارات الطرقية دون تدخل من الجهات المسؤولة، وكأن الأمر أصبح مقبولا
أو طبيعيا.
المجتمع أيضا يتحمل جزءً من المسؤولية في تفشي هذه الظاهرة، التسامح
الاجتماعي مع رؤية الأطفال يعملون في الشوارع، سواء من خلال تقديم المال لهم أو
عدم الإبلاغ عن حالات الاستغلال، يعزز هذه الممارسات، والأفراد الذين يقدمون المال
للأطفال ربما يعتقدون أنهم يساعدونهم، لكنهم في الواقع يشجعون على استمرار
استغلالهم ويمنعونهم من البحث عن حلول أفضل.
انعكاسات هذه الظاهرة سلبية وخطيرة على الأطفال والمجتمع ككل، هؤلاء
الأطفال يُحرمون من التعليم، وهو حق أساسي لهم ووسيلة لتحسين مستقبلهم، بدلاً من
أن يتعلموا وينموا مهاراتهم، يقضون أيامهم في الشوارع معرضين للعنف والاستغلال
والأمراض، هذا الوضع لا يؤدي فقط إلى تدمير مستقبلهم الشخصي؛ بل يعزز أيضا دائرة
الفقر والتهميش التي قد تنتقل إلى الأجيال القادمة.
على المستوى المجتمعي، تؤثر هذه الظاهرة سلبا على صورة مدينة فاس، التي
تُعرف بتاريخها العريق وثقافتها الغنية، رؤية الأطفال في الشوارع وهم يعملون في
ظروف غير إنسانية يعطي انطباعا سيئا عن المدينة ويضر بسمعتها، خاصة وأن فاس تُعتبر
وجهة سياحية مهمة.
المسؤولية عن هذه الظاهرة مشتركة بين الأسر، السلطات، المجتمع المدني،
والمواطنين، فالأسر مطالبة بحماية أطفالها وعدم استغلالهم تحت أي ظرف، والسلطات
المحلية يجب أن تتحمل مسؤوليتها في تطبيق القوانين وتوفير آليات حماية فعالة
للأطفال، والمجتمع المدني يمكن أن يلعب دورا كبيرا من خلال التوعية وإطلاق برامج
لدعم الأطفال وأسرهم، أما المواطنون، فعليهم أن يتوقفوا عن تقديم المال للأطفال في
الشوارع، ويشاركوا في الجهود الرامية إلى إيجاد حلول جذرية لهذه المشكلة.
والحلول المقترحة لمعالجة هذه الظاهرة متعددة، يجب تعزيز تطبيق القوانين
المتعلقة بحماية الأطفال ومعاقبة كل من يثبت تورطه في استغلالهم، ومن الضروري أيضا
إنشاء مراكز متخصصة لإعادة تأهيل الأطفال وإدماجهم في المجتمع، من خلال التعليم
والتكوين المهني، وكذا التوعية المجتمعية تلعب دورا محوريا في تغيير نظرة الناس
لهذه الظاهرة وإقناعهم بالمساهمة في القضاء عليها.
ظاهرة استغلال الأطفال في التسول أو تنظيف السيارات ليست قدرا محتوما؛ بل
هي نتيجة لظروف يمكن تغييرها إذا توفرت الإرادة والعمل المشترك.
وحماية هؤلاء الأطفال واجب أخلاقي وإنساني يقع على عاتق الجميع، فبدلا من
أن يصبحوا ضحايا لمجتمع قاسٍ، يجب أن نعمل على تحويلهم إلى أفراد منتجين يساهمون
في بناء مستقبل أفضل لهم ولبلدهم.
مدينة فاس، بمكانتها التاريخية والثقافية، تستحق أن تكون نموذجا في حماية
الأطفال ورعايتهم، وهو هدف لا يمكن تحقيقه إلا بتضافر الجهود والعمل الجاد من
الجميع.