في قلب مدينة فاس، حيث يتشابك التاريخ بالحاضر،
وحيث تتنفس الروح المغربية عبق قرون من الحضارة، تنزف الطبيعة بصمت جرحا غائرا تحت
وطأة الإهمال والتدمير.
غابة وادي فاس، أو كما أطلق عليها الأدباء
والشعراء "وادي الجواهر"، لم تكن مجرد مساحة خضراء تزين المدينة؛ بل
كانت شاهدة على مراحل من التغيير، ومصدر إلهام لنصوص أدبية وقصائد تغنت بجمالها
وروعتها.
هذا الوادي الذي ارتبط بالذاكرة الجماعية
لساكنة فاس، يتعرض اليوم لاجتثاث مريع يدفع بتاريخه إلى النسيان. في وقت يتسارع
فيه تمدد العمران، ومع تضاعف الكثافة السكانية، تجد المدينة نفسها تفقد آخر ما
تبقى من رئتها الطبيعية.
فمنذ سنوات، بدأت عمليات قطع الأشجار ودفن
أجزاء واسعة من الوادي تحت أكوام من الأتربة والحطام، دون اعتبار للآثار البيئية
والاجتماعية لهذه الممارسات.
لقد كان وادي فاس ملاذا للأسر الباحثة عن هروب
مؤقت من صخب الحياة اليومية، ومساحة للراحة والاستجمام وسط خضرة الطبيعة وظلال
أشجارها؛ إلا أن هذا المشهد الجميل أصبح اليوم ذكرى بعيدة، مع زحف الإسمنت الذي
غطى المكان، وحوله إلى مجرد رقعة منسية تحت عبث التطور غير المتوازن.
ما يزيد الأمر إيلاما هو أن ساكنة فاس، التي
تفتقر اليوم إلى متنفس طبيعي حقيقي، تجد نفسها محاصرة وسط تمدد عمراني يبتلع
المساحات الخضراء الواحدة تلو الأخرى، وفي ظل هذا التوسع الحضري، تغيب السياسات
البيئية المستدامة التي تراعي ضرورة الحفاظ على الموروث الطبيعي، وتوازن بين
احتياجات التنمية وحماية البيئة.
ما يحدث لوادي فاس ليس فقط خسارة لمساحة خضراء؛
بل هو تدمير لتاريخ وثقافة، إنه طمس لمعلم كان شاهدا على حياة أجيال مضت، ومصدرا
للإبداع والأدب.
وفي غياب رؤية واضحة للحفاظ على ما تبقى من
الوادي، يبقى السؤال مطروحا: إلى متى ستستمر هذه الممارسات التي تقطع أواصر
المدينة مع تاريخها وطبيعتها؟ وهل ستدرك الجهات المسؤولة حجم الضرر قبل أن يصبح
الأوان قد فات؟.
إن الحاجة إلى متنفس طبيعي في مدينة مثل فاس،
التي تعاني من اختناق بيئي ومعماري، ليست ترفا، بل ضرورة ملحة، ومع ذلك، يبدو أن
صوت الطبيعة يضيع وسط ضجيج الآلات، وأن صرخات الساكنة الباحثة عن حقها في بيئة
صحية ومستدامة تبقى بلا صدى.
إنقاذ ما تبقى من وادي فاس، قد يكون البداية
لاستعادة التوازن المفقود بين المدينة وطبيعتها، وحماية ذاكرة جماعية لا يجب أن
تسقط في غياهب النسيان.