adsense

/www.alqalamlhor.com

2024/01/02 - 8:36 م

بقلم الاستاذ رضوان البقالي

ارتبط تطور تاريخ البشرية بمجموعة من الصراعات، منها ذات الطبيعة العمودية المتمثلة في الزلازل والبراكين الفياضانات وإنتشار الأوبئة....، ومنها ماهو أفقي يتمثل بالأساس في الصراع على الموارد والثروات وهو مايعرف بنظرية الصراع الإجتماعي، وصولا إلى شكله الطبقي مع ظهور الفلسفة الماركسية؛ هذه الصراعات رافقتها تحولات إقتصادية وهزات إجتماعية كبرى؛ مما أسفر عن نشأة عدة ظواهر إجتماعية بتواز مع قيام كيان الدولة ولعل الفساد ذلك الوحش الذي طالما تربص بطموحات الشعوب والمجتمعات على حد سواء بإعتباره ظاهرة إجتماعية قديمة منذ العصور الأولى؛ ولايكاد يخلو عصر من العصور إلا وشهد هذه الظاهرة؛ إنه السبب المباشر في تخلف كل أمة؛ وربما يكون الفساد من  أكبر المشكلات والتحديات العالمية التي تواجه المؤسسات الحكومية وغير الحكومية منها؛ ورغم أن كل الحكومات في دول العالم تتغنى بمحاربته إلا أنه لازال صامدا ومستمر في التكاثر؛ أما في الدول المتخلفة فقد تمكنت من تحويله إلى ثروة ومورد  طبيعي تستغله كلما دعت الضرورة إلى ذلك بعدما كان سلوك غير سوي ومنبوذ أخلاقيا ومجتمعيا؛ لقد أضحى الفساد ظاهرة إجتماعية متوارثة عبر الأجيال وأرض خصبة لإنتاج ظواهر أخرى موازية له.

إن الفساد صناعة متطورة عابرة للحدود الجغرافية وإستراتيجية ناعمة تدار بها المفاوضات الإقتصادية والسياسية المعاصرة؛ بغية ربح رهان الحرب العظمى "الرأي العام"؛ ففي بلدان العالم الثالث أصبح الفساد سلعة ثمينة وتجارة مربحة يتهافت عليها رجال الدولة وأهل السياسة والاقتصاد والفن والرياضة كما وقع مع سعيد الناصري وأخرون فيما بات يعرف  بقضية "إسكوبار الصحراء" .

لقد عرف البنك الدولي الفساد على أنه " شكل من أشكال خيانة الأمانة أو الجريمة التي يرتكبها شخص أو منظمة يعهد إليها بمركز سلطة؛ وذلك للحصول على مزايا غير مشروعة؛ "ورغم أن أغلب الأحزاب السياسية تعلن في برامجها الإنتخابية أن مشروعها المجتمعي القادم يتمحور بالأساس على محاربة الفساد وإصلاح الإدارة العمومية ومنظومة القضاء؛ إلا أن الفساد عمليا يبقى قائم ويتربع على عرش السياسات العمومية ويمثل دولة من داخل الدولة .

إن محاربة الفساد ليست قرار حكومي فحسب؛ ولا حتى برنامج إنتخابي وإنما منظومة معقدة التركيب تستلزم معركة طويلة الأمد من الإصلاحات الإقتصادية والسياسية والتعليمية والثقافية؛ ومما لاشك فيه أن التطورات الحاصلة في المجتمعات تاريخيا كانت بفضل ثورات إجتماعية "الثورة الفرنسية نموذجا "؛ وحروب دامية غيرت مجرى التاريخ كحرب العبيد الثالثة (71-73ق.م) والتي سميت بحرب المصارعين أو كما سماها بلوتارخ "حرب  سبارتاكوس"؛ ويرجع الفضل لهذا الأخير "سبارتاكوس" في إكتشاف مكمن قوة الإنسان المقهور وإجلاء الخوف من الذات البشرية في مراحلها الأولى؛ لكن مع مرور قرون من الزمن لازال العالم في حاجة إلى سبارتاكوس جديد يخلصه من عبوديته الجديدة "ظاهرة الفساد" التي أصبحث تقيد حركة الناس وتقوض عمل الحكومات وتفرمل السير العادي للمؤسسات؛ قد يشهد التاريخ أننا أمام ظاهرة متشعبة الأبعاد أو كما عبر عنها عالم الإجتماع الفرنسي "أوغست كونت" في بداياته التأسيسية للسوسيولوجيا بالفيزياء الإجتماعية؛ نظرا للتشابه الحاصل بين العمليات التفاعلية لكل من مكونات المادة الطبيعية والظاهرة الإجتماعية؛ فإذا كانت الفيزياء تهتم بدراسة مكونات المادة وحركتها وتفاعلها فإن السوسيولوجيا تدرس مكونات المجتمع وتفاعله مع بعضه البعض؛ وإبراز عمليات التأثير والتأثر؛ وارتباطا بما سبق ذكره، وبإعتبار المغرب يصنف في المرتبة 94 عالميا على مستوى مؤشر إدراك الفساد مما يعكس تنامي الفساد والرشوة وإرتفاع منسوب الجريمة.....في الحياة العامة ومحدودية الآليات القانونية والمؤسساتية الكفيلة بالتصدي للظاهرة، لذلك لايمكننا أن نستغرب من تصنيف المغرب من طرف برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لسنة 2022 الذي أشار إلى أن المغرب يحتل المرتبة 123 عالميا في مؤشر التنمية، وهي مرتبة متخلفة وليس لها مايبررها على الإطلاق؛ إلا إذا كان هناك نوع من التطبيع والتواطؤ مع الفساد؛ بحيث أضحى المغرب لايبتعد إلا قليلا عن 50 دولة الأقل تقدما من أصل 175 دولة العضو في هيئة الأمم المتحدة .

-إن دراسة المادة  في الأوساط الطبيعية وتحت درجة حرارة ثابتة تشير إلى أنه كلما زاد الضغط قل الحجم بنفس النسبة؛ وكلما زاد الحجم قل الضغط مع الإحتفاظ بدرجة حرارة ثابتة وهذا مايعرف بقانون الغازات المثالية "لروبرت بويل"؛ في المقابل وانسجاما مع الإسقاط السوسيولوجي لظاهرة الفساد فإن إرتفاع مؤشره في أي مجتمع يدل على غياب الرقابة الحكومية وضعف المعايير والأسس التنظيمية والقانونية...والعكس صحيح.

-يأخذ الفساد في الوقت الحالي عدة مستويات يمكن تلخيصها على النحو التالي:

- المستوى التربوي والأخلاقي الذي يتحدد أساسا في غياب الدور المنوط بمؤسسة الأسرة كأول مدرسة تعليمية وتربوية  للطفل مع تراجع القيمة الأخلاقية التي تقدمها وسائل الإعلام كوسيلة موازية لما تقوم به مؤسسة الأسرة والمدرسة ...

-المستوى القضائي والسياسي حيث أصبح من المعتاد والمسلم به أن يستغل الموظف الحكومي منصبه لمآرب شخصية مما يقوده في أغلب الأحيان للتلاعب بالمال العام وإستخدامه في الحملات الانتخابية وتجييش الأتباع؛ هذه تمظهرات ناتجة عن عدم إستقلالية السلط أو بالأحرى خضوع السلطتين القضائية والتشريعية للسلطة التنفيذية؛ أما فيما يخص المستوى الإقتصادي والإجتماعي يتجلى في ترسبات اليأس والسخط بالأخص عند فئة الشباب نتيجة ضعف فرص الشغل وتدني مستوى الأجور والإرتفاع المتزايد  في الأسعار ومازاد الطين بلة تبني الدولة لنظام التدبير المفوض الذي شل مردودية مجمل القطاعات الحيوية "التعليم؛الصحة؛النقل؛النظافة..." ؛هذه القطاعات تعتبر ركيزة للمجتمع ونواته الصلبة التي لايجب كسرها؛ لكن ولشدة الأسف تم تكسيرها أمام مرأى من الجميع وفتح باب الخدمات العمومية للوبيات القطاع الخاص بهذف الإستثمار في جيوب وعرق الأباء والأمهات؛ مع رهن مستقبل الأجيال القادمة بالديون من البنوك العالمية؛ وهذا نوع آخر من سياسة التحكم عن بعد التي ينهجها الإستعمار القديم مع مستعمراته التاريخية بفرض تنفيذ توصيات ذات طابع إقتصادي مما ينعكس سلبا على كل مناحي الحياة المجتمعية.

لكل هذه الأسباب وتمظهرات لظاهرة الفساد لابد من تحديد المسؤوليات وربط المسؤولية بالمحاسبة وعدم الإفلات من العقاب مع وضع إستراتيجية وطنية متعددة الأبعاد وفق مقاربة فعالة تضمن معاقبة المتورطين في قضايا الفساد بكل أنواعه "إختلاس؛ تزوير؛ سرقة؛ إحتيال؛ إستغلال النفوذ؛ التستر على الجرائم؛ غسيل الأموال ......"، من أجل تجويد عمل المؤسسات وضمان تكافؤ الفرص بين أبناء وبنات الشعب ودحر التفاوت المجالي والإجتماعي؛ بشكل يسهل بناء إقتصاد وطني بديل يحل محل التبعية الإقتصادية ويلغي الإستعمار ويجمد بنوذه وإمتداداته مع فتح الباب أمام مجتمع خالي من كل الشوائب والمرضيات المجتمعية الفساد نموذجا.