بقلم الأستاذ
رضوان البقالي
تعتبر ذاكرة
النسيان لمحمود درويش من أبرز الأعمال الإبداعية ؛حيث شكلت الحرب الأهلية
اللبنانية والغزو الاسرائيلي للبنان سنة 1982 أساس للمخيال العربي ولذاكرة العرب
الجماعية .
فإذا كانت
قوة النسيان عند درويش وسيلة للتحرر
والشفاء من الكوابيس؛ حيث يصف النسيان على أنه "طير حر" يطير فوق
الذكريات الأليمة ؛ فالتذكر تمرد على النفس والروح ؛والحياة لاترقى إلى مستوى عالي
من التعقل والتدقيق في أصول المفاهيم وترابطها العملي .
عذرا درويش
الناس لم يعودوا بحاجة إلى الكثير من التفكير و العمل ؛ ولا إلى مستوى معيشي لائق
و لا إلى رعاية صحية جيدة ولا حتى إلى تعليم يليق بأبنائهم ...كل ما كان يشغل ضمير
الأجيال السابقة ويشعل فتيل نيران الانتفاضات والثورات سابقا أضحى عند الجيل
الحالي واقع معتاد ونمط حياة مألوف لايسع المرء أن يتخلى عنه ولا أن يتجاوزه ؛كل
مافي الأمر هو التعايش السلمي مع الظلم والفقر والاستغلال وكل مايولد النزاعات
والتوترات المجتمعية.
مرة أخرى عذرا
درويش فالناس تصالحت مع الماضي وعانقت الحاضر بكل ما يحمله من تفاهة وتناقض ؛
المواطن المغربي يشرب الخمر في رأس السنة ويدخن المخدرات بشكل متواصل على طول
السنة ؛ويعمل جاهدا لمعاشرة أكبر عدد ممكن من النساء لكنه لايأكل لحم الخنزير
ويصوم رمضان وحلمه الفوز بقلب إمرأة شقراء يدخلها الإسلام مقابل فيزا حمراء ؛ إنه
تناقض و حقيقة الزيف الوهمي الذي ترتديه الدولة والتناقض الذي يعامل به هذا الشعب
.
إن من يقول أن
جماعة العدل والاحسان وحزب النهج الديمقراطي وراء إحتجاجات رجال ونساء التعليم
لايفقه في سياسة الدولة تجاه الحركات الاحتجاجية بشكل عام وتعاطي الحكومة والوزارة
الوصية عن القطاع مع الوضع بالجدية اللازمة ؛لايمكن مواجهة نخبة المجتمع بالتهديد
والتوقيف…أشد ما نخشاه أن تتحول الأمور إلى عداء دائم أو تكون هناك أياد خفية قد
تجر البلاد إلى مستنقع النسيان .
لايخفى على
أحد أننا في منعرج خطير قد تدفع الدولة ومعها المجتمع ثمنه غاليا ؛
كل الشعوب
والمجتمعات المتقدمة تصالحت مع ذاتها وعملت على تصحيح ماضيها وخططت للحاضر والمستقبل بعيدا عن
العاطفة وتقديم الولاء للمفسدين وتجار البشر والممنوعات ؛ و الفساد لم يعد يتحمل
البقاء حيث أجبر على الرحيل ؛
إلا أن حكومة
بلدنا غائبة عن الواقع ولا تكترث إلى أصوات جموع المحتجين والتفاعل مع مطالبهم
بالمسؤولية اللازمة ؛وتجنب هدر المزيد من الزمن المدرسي ؛ إلى متى تبقى شعارات
الإصلاح ترفع فقط 15 يوما خلال كل خمس سنوات؟ ويبقى أسلوب تبادل الشتائم بين زعماء
الأحزاب السياسية هو مكياج مؤقت يتزينون به لإخفاء حجم الفراغ بين المواطن
والإدارة ؛بين الحق والواجب...لا أحزاب الحكومة
ولا أحزاب المعارضة قادرة على نفض الغبار عن عقلها السياسي وتجديد كوادرها
...ومحاربة الترحال وعدم الإستقرار داخل الهياكل الحزبية والمؤسسات العمومية؛
فإذا كانت
الطبيعة لاتقبل الفراغ فالمجتمعات لاتقبل
بسياسات الانقسام والالهاء...والجالس على الأرض لايخشى السقوط؛ إن التطبيع
مع ثقافة الخداع والتضليل يؤدي لامحالة إلى
موت كل الآليات والوسائل الدفاعية التي يستخدمها العقل الباطن لحماية الفرد من التوترات الناجمة عن الأفكار
والمشاعر المرفوضة كحل لإيجاد حلول وسطية للمشكلات الشخصية وأسلوب إستراتيجي
لمسايرة التوتر والتكيف مع الوضع. بقاء الحكومة والمعارضة في الظل يغيب الإحساس
بالمسؤولية وينمي روح المصارعة الخبيثة .
في وطننا لجأ
المواطن الى وسيلة دفاعية ناعمة لمواجهة الحرب القذرة التي مافتئت أن تنال من قوته
اليومي وكرامته وتقيد حريته ...إنه التكيف المشروط بالخضوع والإستسلام ومسح
للذاكرة بتواز مع قتل كل الشروط المعيشية
وإضفاء طابع الشرعية على كل ممارسة لا أخلاقية والتحايل على الهوية الوطنية الرافضة
لكل أنواع العبودية والمحدودية في التفكير والإبداع...لكن مع تنامي القهر و
الإستبداد أصبح الجمهور(لا الجماهير) مرغم على التطبيع مع واقع الحال ويتشارك معه
مسرحيات معدة بٱحكام تفضي لبتر الروح الوطنية وكل القيم الإنسانية النبيلة ؛إن
مايحاك اليوم من قلب للحقائق في الأذهان ومن تزييف للأحداث ليس وليد اللحظة بل جاء
نتاج لعمل جبار أقدمت عليه الحكومات المتعاقبة وسياسات الدولة العميقة؛ ناهيك عن
الدور المقيت الذي لعبه الاستعمار في هذا الجانب من حياة الناس.
لاشك أن
التصالح مع الماضي يتطلب وعي شعبي وتفكير نقدي مضاد لكل مظاهر الإستبداد والتطبيل
للأقوى على حساب الأصلح والأنفع لمسار تثبيت قيم الحرية والعدالة الاجتماعية في
وطن نخره البؤس السياسي والقهر الاجتماعي والعهر الأخلاقي...
إن تحقيق
الأهداف والغايات المجتمعية مرتبط وراثيا بقوة الأفكار و بجينات الصمود أمام جبل
تناقضات الحياة من كل المناحي والجوانب؛ إن خلق جو من الإبداع والإبتكار وجعله
حلقة وصل بين الماضي المثقل بالخيبات
والمستقبل المتعطش لتحقيق الآحلام كفيل بوصول الغاية دون حاجة اللجوء إلى أساليب
العهد الماضي والتسبب في ضياع مستقبل الآلاف من الأطفال حتى لو كانت سنة للنسيان
بشرط جعل إصلاح منظومة المجتمع والتعليم أولى ركائزها و ضمن أولويتها ؛ وندرك
تماما أن الإصلاح مثل الدواء لابد من تناوله كاملا وفي مدة كافية للعلاج يحفظ
توصيات الطبيب والصيدلي وليس على أهواء المريض ومحيطه العائلي.