adsense

/www.alqalamlhor.com

2023/12/27 - 9:09 م

بقلم حنان بوزكري/ طالبة باحثة بسلك الماستر في كلية علوم التربية

صدر عن دائرة الثقافة،حكومة الشارقة 2023م كتاب بعنوان "غرائب الرثاء في الشعر العربي القديم" وهو عبارة عن دراسات نقدية لسعيد بكور، ناقد و أستاذ التعليم العالي بالمدرسة العليا للتربية و التكوين بالقنيطرة.أثار الناقد فيه غرض الرثاء باعتباره تعبير عن صدق عاطفة الإنسان تجاه المرثي إلا أنه لفت الانتباه لتلك المقطعات التي رثى فيها الشعراء الحيوان و الطير و المتاع،فهي تشارك الإنسان حياته و معاشه،فالديك يوقظ بصوته للصلاة والفرس نظرت إليه العرب بالمباهاة و التفاخر و قس على ذلك، فكيف لا تحترق أحشاء الشاعر ولا يصاب بصدمة الموت إثر فقدانه إياها؟خاصة و أن غيابها يترك فراغا نفسيا و تدبدبا على مجرى الحياة،فيصيغ الشاعر قصيدته في قالب يكشف فيها عن البعد الإنساني تجاه غير الإنس.

      الكتاب عبارة عن بابين،الباب الأول معنون بالتجربة الوجودية جدل المسايرة و المغايرة،فيه تفصيل تام و رصد لسمات مراثي غير الإنسان من متاع و حيوان و طير وهذا لا يتأتى إلا من خلال رصد خصوصيات المرثي طبعا، هذا الباب ضم ثلاثة فصول أما الباب الثاني عنونه الناقد بالصورة التعبيرية بين التلوين و التناسب اهتم فيه الناقد بمعجم الرثاء و إيقاعه لاسيما جماليته نظرا لأن الاهتمام بهذا الجانب لا ينطبق على القصائد ذات الأغراض المعروفة من مدح و غزل...فهنالك من اتخذ من رثاء غير الحيوان غرضا في العصر العباسي كما صرح الناقد سعيد بكور.

       تغلب على قصائد الرثاء تيمة الصدق نظرا لارتباط هذا الغرض الشعري بالتجربة الإنسانية،صاغ الناقد عنوان الفصل الأول من كتاب"غرائب الرثاء في الشعر العربي القديم"كالآتي:شعرية الاحتراق أبرز من خلاله درجة الأسى التي يشعر بها الشاعر جراء فداحة خطب الفقدان ناهيك عن تهييج همومه ومن أمثلة ذلك قول الشاعر:

                         يا سهم هاج رداك لي بلبالا

       و أطار نومي و الهموم أطال

   ففقدان المرثي أطال هموم الشاعر و حرمه من النوم كما  شغل له  فكره،موظفا أسلوبا إنشائيا متمثلا في النداء و هو بنية خطابية كثيرة الاستعمال في الألسن و الأقلام،أداة (يا) التي يُنادى بها للقريب كما للبعيد(يا سهم)إذ في هذا دلالة إيحائية للسهم باعتباره لا ينتمي للجنس الإنساني ولا  لفصيلته، إلا أنه بالرغم من ذلك فهو يكتسب قيمة لدى الشاعر إنه رفيقه في المعارك  و منقذه من العدو،فأهميته هذه(السهم)شكلت لدى الشاعر صدمة  الفقدان.

     يحاول الشاعر سبر أغوار عوالمه الداخلية اعترافا بجميل المرثي و قيمته بالإضافة إلى تبيان مدى أهميته مما يجعل النفس ملتاعة،حيرة الذات تتولد أكثر أثناء عدم القدرة على مواجهة الدهر و مصاعبه دون المرثي ولكن لا سبيل للاستمرار إلا بالصبر:

                ما أحسن الصبر في البلاء و ما

                                     أجمله عصمة لمعتصم

حقيقة الموت مطلقة و الجميل أن الشاعر في هذه المقطعات يتعامل مع رثاء الغريب و كأنه من الإنس فمثلما نصبر على فقدان الأهل، يكون الشاعر في صراع محاولا الصبر بعد فقدان الغريب أي أن هذا الفقدان عميق الجرح نفسه عمق جرح فقدان الإنسان.

   الحياة تقوم على ثنائيات منها:

-      ثنائية الحياة الموت

-      ثنائية الوجود و الغياب

-      ثنائية الفرح و الترح...

هذه الثنائيات يعيشها الشاعر إثر الفقدان كأنها وجه لعملة واحدة و دليل ذلك أنه يعيش الماضي في الحاضر كلما تذكر حياة سعادته قبل الفقدان أخذه الحنين لذلك الزمن كأنه يتجاذب بين الماضي و الحاضر فالذكريات تصاحبه أينما حل و ارتحل مكانا و زمنا.

    تتباين طرق التعبير عن الرثاء من شاعر لآخر فهنالك من يسلك طريق توظيف الأسلوب الخبري الذي يوحي إلى هدوء النفس و تقبلها،وهنالك من يُفضل توظيف الأسلوب الإنشائي من {نداء،استفهام،تمني،نهي،أمر}للدلالة على انفعال الذات وعدم تقبل الخطب،يقول الشاعر:

                          هل لامرئ من أمان

       من ريب هذا الزمان...

يكتسب الاستفهام أهمية بالغة في جذب المخاطب و تنبيهه لقمة انفعاله و الحنق الذي انتابه.

    يزداد حزننا على الشيء بعد الفقدان حينما لا نجد بديلا له فتشتعل النيران في ذواتنا أكثر فتنبعث أحاسيس الأسى فتتعسر الحياة أكثر،فلا نجد ملجأ للتنفيس بعد ذلك سوى بتخليد المرثي و أسطرته إن صح التعبير،قد تكون تفاصيل المرثي بديهية إلا أن الشاعر يسعى جاهدا إلى نقلها في صورة مؤثرة بإضفاء صفات الوفاء/الشجاعة/الإقدام/...الشاعر لا يكتفي بوصف المرثي بل يستقي الفضائل من الإنسان و يلبسها لغيره.

التخير الأسلوبي  لا ينطبق على الأغراض الشعرية الأخرى من مدح و هجاء و غزل...فقط بل عن رثاء غير الحيوان أيضا فيختار من الألفاظ ما يستوي و من المعجم ما يعكس التجربة بعمق.

   صفوة القول أن كتاب"غرائب الرثاء في الشعر العربي القديم"أسدل الستار عن فرادة رثاء غير الإنسان في الشعر العربي القديم و مدى ارتباطنا بمحيطنا ،مما يثير غضبنا و حرقتنا إثر الفقدان،يسعى الشاعر إلى دقة الإخراج خاصة و أن الشعر تعبير لغوي جميل ينفتح فيه الشاعر على البعد المأساوي  محاولا إخراج قصيدة بشكل لوحة فنية يلونها التفجّع  و الصدمة إثر حقيقة واحدة و هي الموت.