بقلم الأستاذ
حميد طولست
التقييم الصحيح
لأي حدث أو ظاهرة أو موقف ، سياسيا كان أو اجتماعيا أو دينيا ، لابد أن يكون بتجرد
و حيادية و بموضوعية ، لا تحركه المشاعر والعواطف والأهواء الشخصية ، ولا تتحكم
فيه الأفكار المسبقة والمبيتة ، حتى لا تجيء معظم الأحكام خاطئة متقلبة تقلب القلب
والعاطفة ، كما هو حال الكثير من الأحداث والظواهر والمواقف المتعلقة بالدين ،
التي حُكِّمَ فيها القلب أكثر من العقل ،
و أَصْدِرَت فيها وعليها الأحكام المبنية
على مدى حب أو كره فاعلها ، والتي غالبا ما يُهمل صلب موضوعها و جوهر كينونتها ، كما هو الحال مع
الأحداث والقضايا التي اعتبرتها الكثير من منصات التواصل الاجتماعي ومواقع البحث
ومحركاته ، نصرا مبينا للإسلام ، وعزة ورفعة للمسلمين، والتي منها على سبيل المثال
فقط: حدث ما اشتهر بـ "قطة الإمام" التي تسابقت جحافل "الفيس
بوك" على التهليل والتغني بملاطفة الإمام الجزائري وليد مهساس، للقطة التي وقفت على كتفه أثناء إمامته المصلين
لصلاة التّراويح ، وكخبر وصول عدد المسلمين لملياري مسلم ، الذي تنافست كتائب
"الفسابكة" المتأسلمين ، على الاحتفال به ، وكقضية القس الكاهن الأمريكي
"هيلاريون هيجي" ، الذي تصدر الاحتفاء بإعلان إسلامه ، كل العوالم
العربية والإسلامية ، وغيرها من الأحداث الغريب التي اختصر الإسلامويون فيها عزة
الإسلام ، وأوجزوا رفعته في حدوثها ، صد
تعاليمه وقيمه السامية وشريعته الغراء، والمتمثل في سجدة البرتغالي رونالدو على
أرضية الملعب احتفالا بتسجيله هدفا لفريقه "النصر" السعودي في مرمى
غريمه "الشباب" ، التي فاق ما عرفته كلٌ من قصة الإمام والقطة ، ومسألة بلوغ المسلمين
لمليارين ، وقضية إعلان القس الأمريكي لإسلامه مجتمعة ، من تفاعلات ومشاركات
المسلمين وتباريهم بالملايين على التكبير لها و لاحتفاله بها، الذي لا يعيبه في شيء
، بقدر ما يعيب أولئك الجهلة الذين لا يعرفون أن السجود ليس حكرا على دين دون آخر،
وأن المسيحيين يسجدون هم أيضا شكرا لله سبحانه ، وإن الدين الإسلامي الحنيف لا
ينتظر من ينصره أو يعزه ، حتى لو كانت سجود نجم كبير ، و الكثير غيره من النجوم
-غير المسلمين- الذين سجدوا قبله في ملاعب كرة القدم ، كليونيل ميسي نجم باريس سان
جيرمان الفرنسي ، وكوستا بارباروسيس النيوزلندي ، وجون جميل "مانجا"
لاعب فريق النصر ، وإيرلينج هالاند لاعب مانشستر سيتي ، وتيري هنري نجم منتخب
فرنسا وأرسنال ، والذين لا يزيد سجودهم
لدين الله الحق قيمة أو عزة ، أنه لا يحتاج إلى من ينصره ، بل بالعكس هو الذي يرفع
من مكانة من يشاء من عباده ، مصداقا لقوله تعالى: "إِنْ يَنْصُرْكُمُ الله فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ
فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ"
آل عمران:160.
الحقيقة
المنطقية التي أوجزها عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوله البين والوا ضح :"كنا
أذل أمة فأعزنا الله بالإسلام ، ومهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله" ،
الذي أرخ به لأثر الإسلام على العرب أفرادا ومجتمعات ، الذين وجدهم وهم أضعف أمم
الأرض وأكثرها جهلا وتخلفاً ، فوحد اختلافاتهم السياسية وتنافراتهم الثقافية
وتناقضاتهم الإثنية ، وجمع شتاتاتهم العرقية ، ورتق تمزقاتهم الاجتماعية ، وجعل
منهم قادة الدنيا وسادتها ، قبل أن يتخلفوا عن الركب ويتخلفوا عن التحضر ، ويسقطوا
في غياهيب التخلف ،الذي لا يعني بالضرورة
تدني المستوى الاقتصادي فقط ، بل يعني الجدب الاجتماعي والسياسي وحضاري
والأخلاقي ، والتردي العلمي والتقني، والجمود والبطء في حركة الاجتهاد إزاء قضايا
الدين ومستحدثات الدنيا ، الأمر الذي عجل بظهور الكثير من النواقص المذمومة في
مجتمعهم ،كالظلم ونقض العهود والخيانة والتزوير والاختلاس وتبديد أموال الشعوب
والتناحر من أجل السلطة والاغتناء غير المشروع ، وغيرها من مظاهر التخلف التي لا
يمكن كسر قيودها إلا باستنفار المشاريع النهضوية التي تحي حركة المعرفة والعلم ،
والانخراط في الثورات العلمية وتوظيفها في الارتقاء بمستوى التعليم، والقضاء على
الأمية، وتحرير العقل البشري من التحجر والتبعية الفكرية ، وإعادة تشكيل منظومة
التحليل والتفسير في الأذهان المتزمّتة ، وإيساع المساحة الرمادية في تقبّلها
للأحداث والقرارات بالتجرد والحيادية التي تحرسها المعايير الأخلاقية.