بقلم :
عبدالإله الوزاني التهامي
لا يحتاج أي
باحث بل أي مواطن كثير عناء، ليتعرف على ماضي قبيلة غمارة المشرق، حيث من شواطئها
مثلا عبرت قوافل الفاتحين الغماريين لفتح الأندلس، وعلى أرضها رابط علماء ومتصوفة
وسالكين، وفي تربتها نبتت وترعرعت كل أنواع الخيرات من خضروات وفواكه وقطاني حتى تجاوز منتوجها مقدار الاكتفاء
الذاتي إلى التصدير، ومن ربوعها هاجرت نحو الداخل والخارج الكوادر والأطر والنخب، بما حباها الله من ثروة بشرية قل نظيرها
في الذكاء والنبوغ والقوة والعصامية والنقاء، وفيها برزت معالم المرأة المغربية
الفريدة من نوعها على مستوى الأخلاق والصنائع والتربية والعفاف إلى حد الآن، وكذلك
اعتبرت غمارة مقبرة المحتلين الغاشمين، حيث شهدت كثير من قلاعها الشاطئية والجبلية
معارك طاحنة انتصر فيها الغماريون انتصارات باهرة، واعتبرت غمارة أيضا أرض استقبال
لآلاف النازحين من مناطق أخرى هربا من الجوع أو السيبة أو الفتن، في فترات تاريخية
مختلفة.
أجزم أنني
مهما حاولت سرد بعض ما تتميز به غمارة، فلن أوفيها حقها أبدا، لنكتفي إذن هنا
بتسليط الضوء على ما ابتلاها به
"خصومها" من بذر لنبتة "مغنية مفقرة"، كانت السبب في تشديد الخناق على أهلها واتهامهم بشتى
التهم، ليسهل تحجيمهم و ابتزازهم وسلب أموالهم وحريتهم ، بل ومصادرة حاضرهم
ومستقبلهم، لدوافع مجهولة، من طرف لوبيات متحكمة في الرقاب ومتاجرة في الهمم
والذمم، إن أهالي غمارة الآن أمام
الاستسلام لجحيم الفقر المدقع أو الهجرة الجماعية نحو المدن أو الانتحار أو الموت
البطيء.
إن
"ألعوبة" تقنين الكيف -القنب
الهندي-، أو ما يصطلح عليه بالنبتة
الذهبية، أو البترول الأخضر، ستبوؤ بالفشل
الذريع، ولعل إرهاصات ذلك بدت جلية قبل تنفيذ خطة "الألعوبة"، إن هذه النبتة المتميزة عن نظيراتها من النباتات كونها “نبتة سحرية” خارقة
للعادة، لا يمكن أن تكون ذات مردود مادي كبير إلا إذا تحولت من مجرد نبتة إلى
مسحوق مخدر، أي إلا بإخضاعها لتغييرات
جوهرية في شكلها وطعمها ورائحتها، عند استكمالها للشهور المعدودة بعد البذر.
وما عدا ذلك
من تخريجات يتم الترويج لها، كصناعة الأدوية وصناعة الألياف، فلا يعدو أن يكون
مجرد تنويم زمني الغاية منه إلهاء الساكنة والمزارعين، إلى حين تجريب
"الألعوبة" وملامسة نتائجها، وبين مرحلة التجريب ومرحلة إدراك النتائج، ستجوع
غمارة وسيتفاقم الفقر وستتزايد حالات الانتحار والنزوح الجماعي.
في السابق ومنذ بذر بذورها الأولى، انتعش الاقتصاد الاجتماعي محدثا رواجا وتحسنا
ولو في أدنى مستويات العيش، فيما تحولت
حياة المتاجرين في منتوجها (المخدر) إلى حياة البرجواجية والبذخ المادي
الكبير، بحيث انتقلت حالة التجار
والسماسرة والوسطاء من حالة ضعف قصوى، إلى حالة غنى باذخ فاحش، علما أن المتاجرين
-وفق تقارير كثيرة- ليسوا فقط من يحملها على ظهره نحو البحر أو نحو المراسي وشواطئ البحار، لكن المقصود
بالمتاجرين، كل من يتعاطى عمليات ترويج المحصول من الحشيش، سواء كان مسؤولا في
جهاز إداري أو أمني ما، أو كان مسؤولة في سلطة محلية أو إقليمية أو ولائية أو
وزارية أو نيابية أو برلمانية، أو
كان وسيطا وسمسارا، أو حارسا مرابطا على
الثغور الشاطئية، أو قائدا أو رئيس دائرة، أو مقدما أو شيخا، وتلك هي أدنى حلقة من
حلقات المتاجرين في الحشيش والمستفيدين الأوائل من عائداته المالية الضخمة، هنا
بالطبع لم ــ ولن ــ نعمم، وفق نفس التقارير، لأننا نعلم بشكل مرئي ومشاهد، أن في
وطننا مسؤولون نزهاء يتصفون بالنقاء والصفاء وتطبيق القانون وبالبعد عن الشبهات،
لم يعلم عنهم الاشتغال في عالم هذه النبتة.
سيشهد التاريخ قبل تطبيق خطط "ألعوبة
التقنين" أن العالم رأى رأي
العين، الغياب المطلق للمنتخبين
وللبرلمانيين المفترض فيهم تمثيل الشعب
والعمل على تحقيق أحلامه والدفاع عن قضاياه، رأى العالم رأي العين مظاهر
مأساوية تنخر كل مجالات الحياة، في قرى ومداشر ومراكز غمارة، غمارة هذه القبيلة
التي تضاهي مساحتها حسب ما يقال في المثل،
مساحة “دولة قطر” وأكثر، ظلت لقرون من الزمن معلمة شامخة في العلم و الأدب
والأخلاق والسلوك والجهاد، حتى أصبحت مضربا للأمثال في كل دول العالمين العربي
والإسلامي، ظلت لزمان بفعل النبتة “الخبيثة” متهمة ومطاردة ومتعسف عليها ومقصية
ومهمشة، وغير مدرجة في جدول اهتمامات المركز الدولتي، لا لشيئ إلا لأن الذين رخصوا
ودعموا زراعة القنب الهندي بالأرض المباركة لغمارة مطلع "الاستقلال"،
فعلوا زون التنبه لمآلات ما فعلوا، المآلات التي ضربت الأسس العميقة التي انبنت
عليها حضارة غمارة العامرة، منذ أمد بعيد
على الصعيد العلمي والكفاحي وغيرهما، في وقت كان الأجدر أن تجهز فلاحيا وصناعيا
وتعليميا وتكوينيا، إذ لو تم الاشتغال على مشروع دعم قراها ودواويرها ومراكزها،
دعما تنمويا شاملا إنيانيا ومجاليا، لأصبحنا الآن أمام غمارة شبيهة بمدن وقرى
الضفة المتوسطية الأخرى، التي ليست أفضل منا على مستوى الخصوصيات والمؤهلات
الطبيعية والبشرية.
الآن
"الألعوبة" تتكرر، في مختبر غمارة المغبونة.
أن تظل ساكنة منطقة كبرى لها تاريخ عظيم،
متراوحة بين حالة "المتهمة"، وحالة "المسجونة" وحالة
"المطاردة"، وحالة "المهجرة" وحالة "المنتحرة"، لا
يزيد إلا في تكريس صورة أكبر مؤامرة حيكت ضد الإنسانية في العالم، ومن لم تعجبه
قراءتي فليأتيني بدليله المدحض لمزاعمي، آتيه بألف دليل، يثبت وجود مخطط -غير
بريء- تقوده لوبيات، هدف ويهدف إلى إذلال الإنسان وإخضاع المجال، مخطط مضاد للخطب
الرسمية السامية.
ولا أدل على
ما نقول، عدم التمهيد لما يسمى بتقنين زراعة القنب الهندي، بنهج سياسة إنتاجية
ميدانية، تهيء المنطقة لتقبل مخطط جديد، كمرحلة انتقالية تضمن للإنسان كرامته قبل
التحدث عن "تقنين" أو محاربة أو استئصال، لأن المرحلة الانتقالية، من
البديهي أن تكون مأساوية على كل المستويات، إن لم تسبقها وتواكبها انتعاشة
اقتصادية وحركة اجتماعية، وعكس ذلك سنرى انحدارا مخيفا في دركات الفقر وتزايدا
مرعبا في حالات الانتحار وارتفاعا مهولا في ظاهرة الهجرة.
نعم، عاينت
ساكنة الإقليم بعض الأوراش والأشغال، حيث ملأت الصور بصر الناس في وسائل التواصل
الاجتماعي، لكن أكثر ما أنجز أو في طور
الإنجاز أبان عن ضعفه وهشاشته وعدم
مواكبته لا من ناحية الوتيرة والسرعة، ولا
من ناحية النوعية والجودة، لطموح الساكنة وللخصاص المهول الذي تعرفه المنطقة.