عبدالإله الوزاني
التهامي
لم يسلم الشيخ
عبدالله بن الصديق من سموم الأفعى الصهيونية، ومن مكر خفافيش الظلام والمخابرات
عميلة جارة مصر المصطنعة المسماة "إسرائيل"، حيث سيزج بعالمنا في
السجن، وذلك عام 1959م، وقضى فيه عشر سنوات، إذ كان خروجه منه عام 1969م.
ولم يهدأ بال
خفافيش الظلام والخونة والعملاء في متابعة هذا العالم الجليل، بل أصدروا في حقه
هذه المرة حكما بالإعدام، نظرا لنبوغه ولإشعاعه العلمي المتزايد في الأوساط
المصرية الشعبية والنخبوية.
ومن كرامات
الشيخ عبدالله بن الصديق، أنه أقسم للصحفيين. بعد صدور الحكم ضده، أنه "لن
يعدم"، وكذلك كان.
والكرامة
الأخرى مفادها أن القاضي المسيحي الديانة الذي حكم عليه لم يمر عليه شهران، حتى
انتحر ملقيا بنفسه من سطح بيته. ليزداد
بذلك تعلق الناس بالشيخ الطنجي الغماري.
ولم ينقطع
عطاؤه خلال مدة سجنه، حيث اعتبرت تلك الفترة من أخصب الفترات العلمية في حياة هذا
الرجل، حيث ألف خلالها أزيد من عشرة كتب، تعد من أروع مؤلفاته، وأكثرها إبداعا.
وقد استفاد من علمه رفقاؤه في السجن من الإخوان المسلمين الشيء الكثير، وترك فيهم
صدى طيبا وأثرا بارزا.
وفي عام
1389ه- 1970م ستنشد طنجة العالية نشيد "طلع البدر علينا ... مرحبا يا خير
داع"، (*) مرحبة أحسن ترحيب بمن مثلها ومثل المغرب خير تمثيل -إنه الشيخ
عبدالله بن الصديق- ابن طنجة البار، سليل أسرة أنجبت الكثير من النجوم المقتدى بها
في الظلمات الحالكة، فاتخذ بعد مقدمه من
منزل متواضع بالزاوية الصديقية مستقرا له، وشرع يدرس فيها للطلبة مختلف العلوم،
كما واصل في ذات الوقت نشاطه في البحث
والتأليف.
ولم ينج في
بلده المغرب أيضا من السجن، وذلك عام 1399ه للمرة الثانية بعد مصر، ليكون ذلك
عربونا صادقا على ثباته في الجهاد بأسلوبه، وإخلاصه في طلب العلم وتبليغه، لأن
عزائم الرجال لا تنثني والجبال الشوامخ لا تنحني لغير الله.
كم كان أمثاله
وأقرانه من العلماء في حاجة لعلمه واطلاعه كالشيخ بخيت، والشيخ يوسف الدجوي،
والشيخ عبدالمجيد اللبان، والشيخ الخضر بن حسين، والعلامة محمد زاهد الكوثري، إذ
حظي لديهم طوال حياته بمكانة القدوة.
كان الشيخ عبدالله
بن الصديق في علم الحديث عديم النظير، لرسوخه فيه، ومن ذوي الاطلاع الكبير على
منافب وكتب الرجال والحديث، حتى أعطيت له درجة
-صفة- "الحافظ"، وقد عرف بالتمكن الواسع في كافة العلوم، ولا
سيما علوم العربية، والأصول، والمنطق، والحديث، والتفسير.
ونظرا لحافظته
وذاكرته ولشدة غزارة علمه، كان إذا تناول شرح حديث مثلا ثم أعاده ثانية، تسمع منه
فوائد وفرائد لم تسمعها منه في حديثه الأول، وهكذا كلما كرر الشرح، وكان إذا أجابك
عن مسألة في أي فن تظن أنه قرأها الآن، ولا يعرف غيرها.
ومع امتيازه
في أمور شتى تميز بسمو ودماثة الخلق، وشدة
التواضع، مع الزهد في الشهوات، والعزوف عن مغريات الدنيا وملذاتها، مربيا ومعلما
وناصحا وداعيا محبيه وتلامذته ومريديه من أجل التحلي بالقيم التي رفعت مقامه.
ولأستاذنا
الشيخ الجليل عبدالله العديد من الآثار والمؤلفات التي جاوزت الثمانين، إضافة إلى
تعليقاته على الكثير من الكتب التي قام بنشرها، إضافة إلى المقالات المتعددة في
المجلات المصرية والمغربية البارزة، نقتصر على ذكر بعض عناوين مؤلفاته تعميما
للفائدة وتوجيها لمن يهمه الأمر:
"تنبيه
الباحث المستفيد إلى ما في الأجزاء المطبوعة من التمهيد"، "الصبح الساخر
في تحقيق صلاة المسافر"، "بدع التفسير"، "جواهر البيان في
تناسب سور القرآن"، "فضائل القرآن"، "ذوق الحلاوة ببيان
امتناع نسخ التلاوة"، "الإحسان في تعقب الإتقان"، "إقامة
البرهان ..."، "عقيدة أهل الإسلام ..."، "المهدي
المنتظر"، "قصة آدم عليه السلام"، "قصة إدريس"،
"قصة داود"، "قصة سليمان"، "توجيه العناية لتعريف علم
الحديث رواية ودراسة"، "فتح الغني الماجد ببيان حجية خبر الواحد"،
"الفوائد المقصودة في بيان الأحاديث الشاذة المردودة"، "خواطر
دينية"، "دلالة القرآن المبين على أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل
العالمين"، "كتاب الرؤيا في القرآن والسنة"، "سمير
الصالحين"، "إتقان الصنعة في تحقيق معنى البدعة"، "الرد
المحكم المتين على كتاب القول المبين"، "إتحاف النبلاء بفضل الشهادة
وأنواع الشهداء"، "رفع الشك والارتياب عن تحريم نساء أهل الكتاب".
(...).
توفي الشيخ
عبدالله بن الصديق (التجكاني الغماري الطنجي) يوم الخميس 19شعبان 1413ه الموافق ل
11 فبراير 1993، وبوفاته فجعت الأمة بفقدها هذا الجوهر النفيس والوتد المتين، كيف
لا وهو من أكابر رجالات العلم والمعرفة في القرن العشرين.
رحم الله
العلامة المحدث الحافظ المحقق، الإمام المبرز، والشيخ الملهم، ورضي عنه.
أحد
أعمدة الأمة في العلم ممن يستفتون فيفتون عن بينة وجدارة واستحقاق،
وممن يرجع إليهم في المسائل الشرعية، الدنيوية والأخروين، ليس في ربوع المغرب
فحسب، وإنما في كافة ربوع العالم العربي والإسلامي، كان من القلائل المشهود لهم
بالإتقان والتبحر في سائر علوم الإسلام، وممن توفرت لهم أدوات الاستنباط، ووسائل الاجتهاد.
وهذا ما جعل
من فقدانه في زمن جاف وقاحل ومضطرب، من أعظم المصائب والرزايا التي حلت بالأمة من
طنجة إلى جاكرتا.
حتما سيخلد
تاريخ وفاته كموعد لذكرى الاعتراف بقيمة العلم والعلماء، مهما نسينا أو تناسينا.
يقول الشاعر:
لآل العلم عز
لا يزول وفضل لا تحيط به العقول
وإجلال ومجد
في تسامي وقدر ما لغايته وصول
سيوف في
الأعادي فاتكات وسطوتهم لها رعب مهول.
...
يا سادة
لولاهم ما لاح في أفق المكارم للفلاح
صباح
تواترت أخبار مجد عنكم يزهو بها الإمساء والإصباح.
انتهى
(*) -- جريدة الشمال عدد 220 وعدد221 .