adsense

/www.alqalamlhor.com

2023/04/01 - 12:06 م

عبدالإله الوزاني التهامي

 قديما حار الناس في تعريف التصوف، وتشعبوا فيه إلى مائة رأي(1)، بل وزادت أقوالهم في ماهيته على ألف قول(2)، وفي ذلك مخلص لمن يريد أن يقف عند معنى خاص، كأن يقول: "التصوف هو كل عاطفة صادقة، متينة الأواصر، قوية الأصول، لا يساورها ضعف، ولا يطمح فيها ارتياب"، وهذا التعريف قريب من قول أبي علي الروزباري:

  "التصوف الإناخة على باب الحبيب وإن طرد عنه"(3). وقول الجنيد (إمام القوم)، "التصوف: هو أن يميتك الحق عنك، ويحييك به"(4).

  لا يشك أحد في حقيقة تاريخية، وهي أن المغاربة مالكيون أشعريون جنيديون (مالك- الأشعري- الجنيد).

 وإذا كان المشرق بلد الأولياء، والأولياء علماء والعلماء ورثة الأنبياء، وإذا كان الملوك يملكون رقاب الناس، فالأولياء يملكون قلوبهم. الملوك ملوك الظاهر، والأولياء ملوك الأسرار والبواطن، المعروفون اختصارا ب "المتصوفة".

  إن الله عز وجل منذ أن بعث المصطفى صلى الله عليه وسلم مبشرا ونذيرا، وداعيا الى الله بإذنه وسراجا منيرا، حاملا صلى الله عليه وسلم وهو عين الوجود رسالة الإسلام إلى العالمين، اشتغلت كل فئة من الناس المؤمنين بحفظ نوع من أنواع العلوم والشرائع والحقائق، التي أتى بها النبي، فمنهم "من قصد تعلم القرآن وحفظه ومعرفته، ومنهم من قصد حفظ السنن في الحلال والحرام، ومنهم من اشتغل بحفظ الفرائض، ومنهم من اختار الجهاد والمحاربة، ومنهم من اشتغل بحفظ الأموال والمضاربة وممارسة التجارة". واشتغلت فئة ب"العكوف على السجود والمداومة على الذكر ونبذ الدنيا والتعلق اليقيني بالآخرة".

 فكل أخذ من النبي صلى الله عليه وسلم حظه، وكل هذه الفئات والحمد لله على صواب ما دامت تنتهي بنواهي القرآن والسنة وتأتمر بأوامرهما.

  يذكر أنه جاء في كتاب التميمي "المستفاد" المتوفى بفاس، فيما يخص مجلس أبي مدين الذي كان حافلا يحضره العلماء والصلحاء من خيرة نخبة المدينة آنذاك، ما ملخصه: "وإذا دخل رجل مجهول لا يعرفه أحد (إسمه أبو الحجاج يوسف الكندري) كان يأتي من البادية، جلس في طرف المجلس، وإذا رآه أبو مدين كف عن الكلام، سواء كان الذي يتكلم فيه من علوم الشريعة أو من علوم الحقيقة، وإذا سئل الشيخ أبو مدين الأنصاري عن سبب سكوته قال: "أسكت أدبا مع ذلك الرجل، فقد أتاه الله أعظم مما عندنا"(5)، يقصد ما أتاه الله في مقام التصوف.

فما هو التصوف ومن هم المتصوفة؟

 إن التصوف كمسمى استلفت الأبصار  واستثار البصائر لما فيه للمعقول من خطرات وللأرواح من سبحات، لا يهم إطلاقا نسبة التصوف إلى "الصوف" أو إلى "الصفاء" أو إلى "الصفة" أو إلى "الصفات" أو إلى "صوفيا" أو إلى اشتقاق مشابه، فإن المستفاد من المصطلح هو الاحتكام إلى القصد والغاية على مستوى الفعل لا الوقوف عند الإسم كشكل دون جوهر.

ما دام موضوع التصوف وماهيته عبارة عن مزيج من عوالم السمو والإخلاص والنقاء والصفاء، وتحقيق كمال العبودية بالفناء في المعبود سبحانه.

وهذا العلم محيط لا يعرف له ساحل، بل ويهيم فيه المريد فلا ينقطع عن متابعة المسير، أو النهل من منبعه الغزير وبحره المديد مهما ظهرت له من بوادر الوصول.

من جهة أخرى فإن التصوف بحر متلاطم الأمواج، فيه من المخاطر ما لا يخطر على بال وفيه أيضا من اللآلئ والفرائد ما يبهر ويكاد يذهب بالأبصار، وفيه الأمواج الهوجاء والتيارات واللجج التي لا تطيقها سوى السفن -القلوب- السليمة الثقيلة المتوازنة.

لهذا فهو موضوع شائك ومسلك صعب لا يقبل إلا الملاح  البصير، والسباح الخبير، لأن مواده ليست مسائل حسابية أو عمليات رياضية، يظهر للإنسان فيها طريق واحد لا يتغير ولا ينحني، بل إن محتوياته أحوال وخطرات وسبحات ونفحات ولمحات وأنوار وخوارق أيضا، وأغلب وارداته سرية خفية أكثر منها جهرية مظهرية، وهي غامضة معقدة أكثر مما هي سهلة وواضحة. فالأجدر للمريد وللسالك إذن والحالة كما نرى صحبة مصحوب عارف عالم حتى لا تزيغ العقول وتضل القلوب وتهلك أبدان وتفتن نفوس.

هذه الصور واللمحات حول عالم التصوف المملوء بطرائف ساحرة وخفايا جاذبة، "احتاج ويحتاج إلى دراسات معمقة ومحايدة تخترق عوالمه للوصوص إلى معانيه ومبانيه قبل أن نحكم لصالحه أو ضده بحكم مجحف غير عادل، مهما اختلفنا أو اتفقنا مع ما نتوصل إليه(6).

يقول "الشرباصي" المدرس سابقا بالأزهر الشريف في تقديمه لكتاب "صفوة التصوف"  : ..."فيجب أن نقرأ ونقرأ، وأن نقرأ كثيرا جدا عن التصوف قبل أن نتهجم عليه بحكم قد يكون جائرا أو مسرفا. وإنه لمن البعيد جدا عن الروح العلمية وأسلوب البحث أن نرى متسرعا ينعت التصوف بأنه شعوذة ودجل وتخريف، لأنه رأى من أدعيائه تصرفا لا يرضاه، أو سمع منهم قولا يأباه، دون أن يعكف حينا من الزمن على دراسة مسائله وتمحيص موضوعاته، حتى يكون القول أصدق والحكم أحق! ".

والاقتصار على دراسة التصوف ك"ظاهرة إنسانية" من موقع إديولوجي أو بيداكوجي أو إبستيمولوجي أو من مواقع مشابهة، أو الاقتصار على دراسته من مرصد سوسيولوجي أو انتربولوي أو سيكولوجي، أو عبر غيرها من المراصد والمناهج والمواقع والمواقف، فذلك بمثابة الجالس فوق برج عال وهو يحاول بكسله أن يشم روائح الزهور وهو لم يراها سوى تخيلا، أو كالذي هو منزو وعديم الحركة وهو يمني نفسه بالحصول على ما يشبع رغبات  وشهوات تحتاج لقطع مسافات وأميال، أو كالذي يسمع عن لذة العسل وجمال ورد ولم يجرب لسع نحل ولا وخز شوك.

------

هوامش:

--1 اللمع ص27.

-- 2 انظر نشر المحاسن العالية لليافعي ج2، ص343.

-- 3 الرسالة القشيرية ص127.

-- 4 الرسالة القشيرية ص126.

-- 5 "من تاريخ التصوف بالمغرب" أحمد التوفيق، جريدة "الإشارة" ع1، ص3، 1999.

-- 6 جريدة الشمال عدد 223 ص17 / 2004.