عبدالإله
الوزاني التهامي
وقفنا على
آيات بينات من الذكر الحكيم التي أحاطت بموضوع الصوم، وتضمنت المعنى العام الهام، وهو أن الصوم ليس عبادة
مستقلة مقصودة لذاتها، وإنما جزء من نظام له أجزاء أخرى، وليست منفصلة عن النظام
الاجتماعي في أبعاده المختلفة. بهذا حدثني الفقيه البركة المرحوم سيدي عبد السلام
التاغي دفين القلالين بتطوان، مضيفا أن العدالة الاجتماعية، والامتناع عن الظلم في
الأموال، والقتال في سبيل الحق لصد العدوان وحماية العقيدة، وبذل المال في سبيل
المصلحة العامة، وخاصة من أجل صد العدوان وإيقاف الطغيان، هي الغايات المقصودة من
تربية النفس على كف الشهوات و إمساكها عن الملذات وترويضها على التضحية بها في
سبيل ما هو أعظم منها. رضى الله عنك استاذي الإمام سيدي عبد السلام التاغي وأسكنك
فسيح جناته.
وقد فرض الصوم كما هو معلوم في السنة الثانية
للهجرة، في وقت كان القتال قد سمح به لصد الاعتداء، وكان إنفاق المال ضروريا لبقاء
المجتمع الاسلامي الجديد، لا مجرد صدقة على سائل أو فقير أو تطوع إحساني، وكان
الجو كله جو تضحية وجهاد بالنفس والمال والغالي والنفيس.
في مثل هذا
الظرف بالذات، فرض الصوم، وجعل عبادة أساسية من جملة العبادات، ووضع في مكانه من
هذا النظام العام المشتمل على الجهاد والإنفاق وبذل المال، ليكون تمرينا للنفس
وتدريبا وتربية لها وترويضا، لا لمجرد الزهد في طيبات الحياة.
كما يؤكد هذا
المعنى ما ورد من أحد الصحابة أثناء إحدى
المعارك حيث مر بغار فيه ماء، فحدثته نفسه أن يقيم فيه، ويصيب مما حوله من بقل
ويتخلى عن الدنيا، ولكنه حين استشار النبي صلى الله عليه وسلم، قال له: إني بعثت
بالحنيفية السمحة، والذي نفسي بيده لغدوة أو "روحة" في سبيل الله خير من
الدنيا وما فيها، ولمقام أحدكم في الصف –أي صف القتال– خير من صلاته ستين سنة.
(مسند الامام أحمد، ج 5، 166).
فطوبى لمن
يعمل هذه الآيات يتحلى بمضمونها مثل الفلسطينيين، وما سواهم فيحتاجون لجهاد بأبوابه العديدة.
وقد فرض الصيام على مرحلتين، كان في الأولى
منهما على سبيل التخيير، إذ كان المرء مخيرا بين أن يصوم أو أن يطعم مسكينا فيجرئ
ذلك عنه، كما روى ذلك البخاري في أحاديث متعددة عن الصحابة في تفسير قوله تعالى
"وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين" س البقرة آ 183.
ثم كان في المرحلة الثانية، فرضا محتما فنسخت
هذه الآية بالآيات التالية "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات
من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من
أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" س البقرة آ 184.
فلم يستثن إلا
المريض والمسافر، وذلك نفيا للحرج والتضييق، ورغبة في التيسير وتكليف الإنسان بما
يطيق من التكاليف، "وما جعل عليكم في الدين من حرج" س الحج آ 78.
وقد تلت هذه الآية آية تذكر بأن الصوم عبادة
تقرب من الله، وتثير في النفس معاني الصلة بالعالم العلوي، وتشير إلى أن الأصل في
العبادات تفتح القلب وتوجهه إلى الله ومناداته ومخاطبته ودعاؤه واستشعار وجوده.
"وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة
الداعي إذا دعان، فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون" س البقرة آ 185.
وهذه الآية الرائعة التي تصور حقيقة الدعاء،
ليس مجرد كلام، بل يجب أن يسبق من قبل الإنسان المدعي الاسلام باستجابة لله
وتلبية، وليس من المعقول أن تطلب من أحد أن يلبيك ويجيبك، وأن لا تجيبه أنت إذا
دعاك.
وليست هذه الإجابة أمرا سهلا، فإنها تتضمن تنفيذ
أوامر الله، وانصراف النفس البشرية إلى تحقيق الرسالة التي أمره الله بالقيام بها،
وأداء الأمانة التي كلفها بها، سواء في حياته الشخصية أو في حياته العامة بين بني
جنسه من البشر.
لقد اشترط
لتلبية الدعاء الإيمان به والاستجابة له ليصل البشر إلى الرشاد والسداد.
وهذا يهمنا في
الصميم ما دمنا "كلنا مسلمون". ليس الدعاء كلاما مجردا يعقبه إجابة
الطلبات، فإن لذلك ثمنا عظيما، إنه الفعالية التي يبذلها الانسان في حياته في سبيل
ما يرضى الله، إنه الجهاد الذي أمر الله به في هذه الحياة، جهاد النفس وشهواتها،
جهاد الأهواء الغالبة والملذات الفاتنة، وجهاد اللؤم ومكافحته وجهاد الباغين
المعتدين، وجهاد إقامة العدل والدفاع عن الحق والفضيلة.
إن الدعاء
الرخيص بمجرد رفع الأيدي وتحريك اللسان دون العمل لا يعدل شيئا، ولا يرجى منه خير،
وإنما الدعاء بذل الجهد والتوجه إلى الله بالقلب والشعور، وبالعمل والجوارح
والاستجابة لدعوة الله: "يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله والرسول إذا دعاكم
لما يحييكم" س الأنفال آ 24، "إن تنصروا الله ينصركم ويثبت
أقدامكم" س محمد آ 7.
ذلكم رمضان في صورته الكاملة، وفي المخطط العام
لنظام الاسلام، نسأل الله أن يتقبل صيامنا وقيامنا.