بقلم امال
بنعبد الرسول
زرع النخاع
وأشياء أخرى
يقول الله
تعالى: (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين)، اللهم اجعلنا منهم، فتوبة المؤمن
نجاة ومغفرة وطهارة له من كل الذنوب. اللهم اجعلها لي، أيضا، ولكل من يهده المرض،
طهارة من الألم والبلاء.
حل اليوم
الموعود. استيقظت بعد أن خاصم النوم أجفاني جراء الخوف الذي تملكني، الخوف من
إجراءات عملية الزرع التي سأخضع لها والتي تبقى نتيجتها تتأرجح بين السلب
والإيجاب. أتذكر المرضى الذين سبقوني في الخضوع لعملية الزرع وكللت عملياتهم
بالفشل، فيتضاعف توتري وقلقي. كما أتذكر أولائك الذين حالفهم النجاح وخرجوا من
جحيم هذه العماية سالمين، فيتقوى أملي.
لم يقطع
تفكيري في هذه الأمور سوى الممرضة، الملاك ليلى، التي فتحت باب الغرفة، فدخلت
والبشاشة تعلو محياها، كعادتها. لكني هذه المرة، خلت وكأن بسمتها زائفة، تخفي من
ورائها حقيقة ما ينتظرني من أمور صعبة. بعد لحظات، قادوني نحو غرفة توجد بها آلة،
قيل لي إنها لتصفية الدم. ما كان مثيرا، بخصوص هذه الآلة، هو كثرة الأسلاك الخارجة
منها، والتي تم غرسها في مختلف أنحاء جسدي.
وتبقى مهمة هذه الأسلاك، وانطلاقا من الدم المتدفق من بدني، إفراز الخلايا
الجذعية الوليدة من أجل تخزينها في آلية مخصصة لهذا الغرض.
كانت معاناتي
مع العملية وما صاحبها من إجراءات، كبيرة جدا. تكفي الإشارة إلى أن العملية امتدت
على مدى أربع ساعات ونصف، ومن دون توقف. في البداية، شرعت الآلة في ضخ الدم بهدف
فرز الخلايا الصغيرة، وهذه الخلايا هي التي سيتم زرعها لاحقا، وهذا ما يسمى زراعة
النخاع. وبينما كانت الألة تمتص دمي، لتستخلص منه الخلايا التي في طور النمو، حدث
لي انخفاض كبير في الدم. أحسست وكأن مسامير حادة تفتك بجسدي من جميع النواحي.
انتابني الإحساس بالضعف والوهن. لم أعد أقوى على الحركة. كتمت كل أحاسيسي عن
الممرضات. لم أكن أرى جدوى من الإفصاح لهن بذلك. كنت واثقة من أن ساعتي أزفت، وما
عليَّ إلا الثبات والنطق بالشهادتين، فأنا هالكة لا محالة.
لاحظت ممرضة
الاصفرار الذي اكتسح وجهي وجسدي كله بشكل مباغت. ولتفادي السقوط في الغيبوبة،
انطلقت تحدثني، كنت أسمعها ولكني لم أكن أملك القدرة على الرد عليها. فما كان منها
إلا أن رفعت صوتها تستغيث. إثر ذلك، أحاط بي مجموعة من الأطر الطبية الذين انصرفت
جهودهم إلى اتخاذ الإجراءات الضرورية قبل فوات الأوان.
فقدت الوعي وسقطت في غيبوبة تامة. وحين استفقت،
وجدت نفسي داخل غرفتي. تيقنت أني ما زلت على قيد الحياة. توجهت إلى العلي القدير
حامدة شاكرة. مرت على أخذ الخلايا الجذعية قرابة ثلاثة أيام. وحل موعد الخضوع لحصة
الشيميو التي ستتلوها عملية زراعة النخاع.
ما زلت أذكر
التاريخ تماما، كان الاثنين 12ابريل 2019. أحضرت آليات شيميو. لا أخفيكم، كانت كل
جوارحي ترتعش، شعرت بألم فظيع في حوضي. كل الأطر الطبية، وكان على رأسهم البروفسور
بولخماس، دعوني إلى التسلح بالصبر وضبط النفس وتفادي كل انفعال، من أجل أن تمر
الحصة في أحسن الظروف. ومن أجل مدي بجرعات من الأمل والصبر، صرحت لي البروفسور
بولخماس، بأني غير مصابة بالسرطان. فلو كان الأمر كذلك، كما قالت، لكنت الآن في
عداد الهالكين.
بمزيد من
الصبر والأناة، ارتضيت لنفسي خوض هذه المغامرة من جديد. كنت أحس بأن كل الطاقم
الطبي يساندني ويتعاطف معي. كانت تلك المشاعر، بلا شك، تخفف من آلامي وتذيب عني
جليد الوحدة التي كنت أعيشها، هناك بمستشفى الشيخ خليفة بالبيضاء. وبعد أن أوصت
الدكتورة بضرورة إخبار الممرضة بكل ألم مفاجئ يلم بيَ، خضعت للشيميو، لهذا الغول،
لهذا التنين الذي يفوق في جبروته قوة ذلك الكائن الأسطوري الذي تتحدث عنه الأساطير
الصينية. أُخبِرتُ، بأني سأفقد شعري مجددا جراء الشيميو.
استسلمت لقدري
وكلي أمل في الله القادر الشافي. خضعت لهذا الغول وأحسست به يتوغل في كل كياني.
وشيئا فشيئا، بدأت قواي تضعف إلى أن صرت أخال جسمي كله بمثابة جبل يثقل كاهلي. لم
أعد أقوى على الحركة، وبدا وكأنني أصبتُ بالشلل التام. لن أنسى أبدا وقع أول جرعة
تسربت إلى داخل جسمي، كانت مثل انتشار النار في الهشيم. فما كان لجسدي إلا أن أعلن
تمرده وانتفاضته ضد هذا الغول. وكانت عُدَّتُه، في هذه الانتفاضة، إظهار القروح الكثيرة،
و" التنشيط " عبر حكة شديدة، تتواصل أشواطها بلا انقطاع. وأملا في
التخفيف عني من أوزار هذه الحرب غير المتكافئة، ألزموني، مجددا، بأخذ كمية كبيرة
من الأدوية. بقيت على هذه الحال على مدى أيام، عشت خلالها جحيما لا يطاق. فقد
أضيف، وقاكم الله، للآلام المخلصة في رفقتي، ولآلام الشعور بالوحدة، آلام القروح
التي تصبح معها كل حركة، بمثابة السير فوق نيران مستعرة.
يتبع...