عبدالإله
الوزاني التهامي
"أرضعته جدته
وكان حاد الذكاء سريع الحفظ وعرف بقوة الشخصية
وبالتدين على نهج سلفه منذ صباه
"
هو سعيد بن
أحمد بن العياشي بن الهاشمي أعراب، ينتسب إلى الولي المجاهد سيدي يحيى أعراب، رمز
من رموز الجهاد بالمنطقة الغمارية التجساسية، القادم من بلدة درعة، ليندمج في صفوف
المجاهدين المتصدين للمحتلين البرتغال و القراصنة الإسبان على امتداد شواطئ البحر
المتوسط، حيث أقاموا عدة رباطات (1) على ثغور كثيرة بشمال المغرب لمقاومتهم.
وكان مجيء
سيدي يحيى (الجد الأكبر للمترجم له) إلى
هذه الربوع من المغرب حوالي القرن الثامن الهجري، فقصد قرية تسمى
"تجنات" على ساحل مدشر "إعرابن" المجاورة لحصن
"تاركا" (2) . وهو حصن كان مركزا للجهاد والرباط منذ احتلال شواطئ
المغرب من قبل البرتغال -البرتقيز- والإسبان -أولاد بورقعة-. وهناك ظهائر سلطانية
وقعها ملوك علويون تنص على إعفاء القبائل البزراتية من كلف المخزن، لأنها متفرغة
للجهاد والرباط بهذا الحصن.
ويبعد هذا
الحصن عن مدينة تيكيساس الرومانية كيلومترات معدودة، تيكيساس مدينة قديمة كانت
مركز غمارة في عهد الشريف عمر بن مولاي إدريس الثاني بن مولاي إدريس الأول حوالي
223 للهجرة، وتحول حكمها بعده إلى أبنائه وأحفاده، وظلت -تيكيساس- عامرة إلى أواخر
القرن الثامن الهجري، حيث خربها الريكي الثالث الإسباني عندما خرب تطوان وغيرها من
المدن الساحلية، فحلت محلها منذ مطلع السبعينات ما يسمى بقرية اسطيحات.
وبالمنطقة
المذكورة أعلاه -إعرابن- قبض الله روح سيدي يحيى أعراب، ودفن في مقبرة المجاهدين
(3)، على شاطئ البحر، وقبره معروف وهو
مزارة مشهورة.
وبعدما قضى
نحبه رحمه الله، استقر أبناؤه بنفس المنطقة، واتخذوا من إعرابن معقلا لهم إلى
يومنا هذا، وكانت عادتهم الاستقرار في الساحل شتاءا، والرحيل إلى الجبل صيفا، وقد
أطلق لقب "أعراب" على أحد أجداد المترجم له حوالي المائة التاسعة أو
العاشرة للهجرة. ولا زال لسان أهل المنطقة
ينطق لهجة بربرية محلية، والدارجة العربية في انسجام تام.
كان والد سعيد
أعراب يمتهن الصيد البحري ويتخذ لذلك قاربا تقليديا في ملكيته، كما كان يشرف على
توجيه مجموعة من الصيادين.
وهو في نفس الوقت يتفقه في الدين ويمارس التعليم. وأغلب إخوة سعيد اشتغلوا في ميدان التربية
والتعليم. وأما أسرته وعائلته عموما
فاشتهرت بالجهاد والعلم وحب آل البيت، ومتابعة الدراسات القرآنية.
ومن هؤلاء
الفقيه الصالح المشهود له بالولاية سيدي
العياشي أعراب ذو الكرامات الكثيرة، الذي تلقى تعليمه بتطوان وفاس، وقام بتدريس
علوم القرآن والحديث وغيرها بجامع الإحسان بمدشر تندمان -بواحمد- المؤسس على يد
سيدي أحمد بن سيدي عمر بن مولاي إدريس الثاني، وتوفي سيدي العياشي هذا رحمه الله
عام 1991م، ودفن بمقبرة بدوار "المقورا"
-الحومة الكحلة- على بعد أمتار قليلة من مسجد "الفتح".
وقد تخرج على
يد هذا الفقيه الصوفي -العياشي أعراب- طلاب كثر، حجوا إلى مجالسه النورانية من كل
أنحاء المملكة، يشغل جلهم مناصب مهمة في الدولة فيما يحظى أكثرهم بمكانة متميزة في
المجتمع.
وللإشارة فإن صاحب الترجمة سعيد أعراب بدوره قد
نال حظه من دروس هذا الفقيه الجليل.
وللأسف الشديد
فإن الباحثين والرأي العامة أيضا لا يجدون ما يشبع نهمهم من تعريف مفصل بالفقيه
العياشي أعراب، ليس لسبب ندرة المعلومات والأخبار الخاصة بحياته، وإنما لسبب ندرة
الضمائر الغيورة على تاريخ وتراث ورموز المنطقة. وقد خصصنا من جهتنا له نبذة
مختصرة لكنها تبقى غير كافية بالنظر لسجله الحافل بالعطاءات في مجال العلم
والتدريس والتصوف.
ازداد سعيد
أعراب عام 1339ه/1920م، بقرية جبلية تدعى "تيفوداين"، وقد ابتلي كما
رأينا بفقد والدته وهو لم يكمل شهره الرابع. حيث كانت لهذه المصيبة الأثر البليغ
في تشكيل شخصية سعيد منذ أن رأى نور الحياة، ومنها قيام نساء قريته بإرضاعه، فيما
تلهيه وتلاعبه جدته بثديها إذا تعذر على النسوة المذكورات إرضاعه، إلى أن خطر على
بال الجدة فكرة تناول السمك الغني بالمواد المغذية المهمة، المدرة للحليب لدى
النساء، الشيء الذي جعل الصبي سعيد أعراب يزداد تعلقا بثدي جدته، يقول هو بنفسه عن
ذلك: "بدأت أرضع من ثدي جدتي، إلا أن فترة الرضاعة هذه طالت نحو سبع سنوات،
ذلك أنني أصبحت مدمنا على الرضاعة، وعندما لا أرضع أحس بدوار في رأسي. وما زلت أذكر أنني كنت في السادسة أو السابعة
من عمري أصحبها إلى الحقل لجني بعض الفواكه، فكنت أصعد الشجرة ثم أنزل بعد أن أملأ
السلة لأرضع، ومرة طلبت منها أن ترضعني، إلا أنها أبت قائلة: "لا أرضعك حتى
تملأ السلة بالفواكه"، فما كان مني إلا أن رميتها عليها، فلبت طلبي بعد غضبي،
وفي هذه السن كنت أشعر بالخجل، فكانت تغطيني بمنديلها حتى لا يراني أحد. "
(4).
ويحكي عنه أحد
أقاربه أنه كان حاد الذكاء، سريع الحفظ، شديد البصر، إلى درجة أنه كان يقرأ في
أوقات كثيرة تحت ضوء القمر.
عاش سعيد
طفولة بسيطة وهادئة ككل طفل قروي، إلا أن انتماءه إلى أسرة عريقة معروفة بالجهاد
والكفاح والرباط والعلم جعلته بالغريزة منذ طفولته، شديد التقوى والتمسك بالفضيلة،
ويحكى عنه بالتواتر لحد الآن أنه كان متدينا يخاف الله، وأنه رغم صغره لم يشارك
أطفال البادية في سطوهم على بساتن الغير، وكأن الله ألهمه التمييز بين الحلال
والحرام منذ صغره.
(1) -انظر
بهذا الخصوص مقال حول "الرباطات والزوايا" الشمال عدد 127.
(2) - تاركا
حصن ذكره شكيب أرسلان في "الحلل السندسية"، ج68/1.
وذكره الشريف
الإدريسي في نزهة المشتاق.
(3) - هناك
مقبرة أخرى في نفس المنطقة تسمى مقبرة "المجاهدين" بقرية بوونتر محاذية
للطريق الساحلي -ببني زيات جماعة اسطيحات.
وهي خاصة بشهداء الجهاد.
(4) - حوار
الطالب مصطفى الراضي مع المترجم له سعيد أعراب بمكتبه في 11 نوفمبر 1986.