بقلم امال عبد
الرسول
" ملائكة
الرحمان "
فإذا بكت
عيناك حزنا، فثق بأن الله يخبئ لتلك العينين شيئا، يجعلهما تبكيان فرحا. يقول الله
عز وجل " لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ".
المهم، بعد
تجاوز محنة الزونا، وبعد إتمام الإجراءات الإدارية، شددت الرحال نحو مدينة الدار
البيضاء. كان برفقتي زوجي ونجلينا أنس وأسامة، إضافة إلى سي أحمد، شقيق زوجي. طوال
مشوار الرحلة، كانت تتزاحم في ذهني العديد من الأسئلة: ماذا ينتظرني؟ كيف تتم
عملية زرع النخاع؟، كيف لهذه الروح المتعبة، كيف لهذا الجسد العليل، أن يواجه
المزيد من الشدائد ولهيب الانتظارات العصيبة التي لا تنتهي؟
بالطبع، كان
المرافقون لي يشعرون بما أكتوي به من تساؤلات حارقة. لذلك، وبغية التخفيف عني
وإلهائي على ما أنا عليه، كانوا يستحضرون طرائف، عشناها جميعا، أو يثيرون أحاديث
ترتبط بالقضايا التي كانت تشغل الناس، محليا ودوليا، حينئذ.
وصلنا البيضاء
حوالي الساعة العاشرة صباحا. كان مما يثير الانتباه، وأنت بين أحضان هذه المدينة
المليونية، هو " تسونامي " السيارات التي تخترق شوارعها في عجلة من
أمرها. كان يبدو واضحا أن الزمن بالعاصمة الاقتصادية يسير بإيقاع أسرع مما ألفناه
في فاس ومدن أخرى. وللحقيقة، كان ما أصابنا من تعب ومشاق، ونحن نخترق الطريق
السيار الذي يقطع المدينة، أكثر مما عانيناه من طول المسافة بين فاس والبيضاء.
بلغنا مستشفى
الشيخ خليفة، المستشفى الضخم الذي يقدم الخدمات الصحية في العديد من التخصصات
الطبية. توجهنا مباشرة نحو المصالح الإدارية، وبعد أن أمددناهم بكل الوثائق
المطلوبة، أطلعوني على مقتضيات القانون الداخلي لهذا الصرح الصحي المتميز سواء
تعلق الأمر ببنايته ومرافقه وتجهيزاته الحديثة أو بتوفره على العديد من الأطر
المتخصصة ذات الكفاءة العالية.
وجاء موعد
" اللحظة الصفر "، جاء موعد افتراقي عن زوجي وعن بؤبؤي عيني، أنس
وأسامة. لأول مرة في حياتي، سأجد نفسي مضطرة إلى الابتعاد عنهم طيلة شهر كامل.
كانت لحظة متميزة، بقدر ما تميزت بالحرارة والتوتر، بقدر ما تميزت بشيء من "
النفاق ". لا أنا، ولا هم، الجميع كان يبذل قصارى الجهود من أجل إخفاء
المشاعر الحقيقية، مشاعر القلق والخوف والترقب، ويحاول إظهار رباطة الجأش والحرص
على التعبير على ما يمكن أن يبعث الأمل والسكينة في الآخر. كنت، وأنا أودعهم باكية
أهمس في نفسي متسائلة: " هل سيكتب لي اللقاء بهم مرة أخرى؟ ". وكانوا،
هم أيضا يضمرون في أنفسهم القلقة السؤال المؤرق: " هل ستكتب لي حياة أخرى
وأغادر هذا المكان حية ترزق؟ ".
منذ اللحظة
التي غادروا فيها أحبائي المكان، استبد بي، إلى جانب الخوف مما ينتظرني من الخضوع
لتدخلات طبية، الشعور بالوحدة. لم يوقف ذهني على التفكير في هذه المشاعر والهواجس
سوى استقبالي من طرف الأطر الطبية المشرفة على زراعة النخاع. فتم قيادتي إلى
الغرفة التي خصصت لإقامتي. كانت كل جوانبها ومرافقها معقمة، ونوافذها مغلقة. كانت
تشتمل على سرير ومرحاض وأجهزة طبية. لكم ما كان مثيرا للانتباه هو وجود رفوف
ممتلئة بالأدوية. نظرت اليها متوجسة، وأنا أهمس في نفسي: " لمن هذه الأدوية
كلها؟ لم يخطر ببالي إطلاقا أنني أنا من سيتجرعها كاملة!
في كل حلقات
مسلسل معاناتي مع الداء، بقيت دوما متمسكة باليقين في الله تعالى ومتمسكة بالأمل.
وكنت أحس أن القدر يمدني باستمرار بناس كانت أياديهم البيضاء، البلسم الفعال الذي
يخفف من وزر ما أعانيه. مرة أخرى، وبمستشفى الشيخ زايد، سأجد نفسي بمحاطة بأطر
صحية في غاية الرقة واللطف. وهو ما جعل ذاكرتي تفيض بمقاطع مترسبة منذ طفولتي
المبكرة، تلك المقاطع التي تتغنى بالممرضة:
رأيتها نظيفة نشيطة خفيفة
فؤادها رحيم وعطفها عظيم(...)
في كفها الشفاء يبعثه الرجاء
في قلبها حنان يبثه اللســان
كانت ليلى
وكانت لبنى وكان غيرها، بهذه المؤسسة الصحية، بالفعل، بمثابة ملائكة الرحمان. لن
أنسى لبنى وهي لا تكتفي بمدي بجرعات الدواء وضمان استفادتي من الخدمات الطبية، بل
كانت، وكان ذلك الأهم والأكثر وقعا على نفسيتي الرقيقة، تمدني بجرعات من الأمل، في
تواضع وطيب خاطر. لن أنسى ليلى التي كانت كلما ولجت غرفتي تخاطبني: " صباح
الخير حبيبتي أمال. يا طالما كررت على مسامعي، عبارات ترفع المعنويات وتخفف من
وطأة الداء ومستلزمات العلاج، كان منها قولها باستمرار، وبكل خفة وبشاشة: "
أمال مخصهاش تموت دابا ".
بطبيعة الحال،
وقبل عملية زرع النخاع، كان لازما الخضوع لسلسلة من التحاليل والكشوفات. أحيانا،
يجتاحني الشعور بالملل، لم يكن يساهم في تبديده، شيئا ما، سوى نلك المعاملة الطيبة
للأطر الصحية ومتابعة بعض البرامج بالتلفاز.
كان يتواجد
بالجناح المخصص لزرع النخاع، مرضى آخرون، ينتظرون الاستفادة من نفس الإجراء. كنت
أقلق عندما أسمع عن فشل المهمة، لكون المريض رفض جسمه التكيف مع ما زرع فيه.
وبالمقابل، كان الأمل يتقوى لدي، حين أسمع عن نجاح العملية بالنسبة لمريض آخر.
استعدادا
لعملية الزرع، قرر الاطباء إحداث ثقوب في رقبتي من أجل تسهيل عملية تزويدي بالدم.
كنت محظوظة، وبفضل من ربي أن الطبيب الذي قام بذلك كان أستاذا متمكنا من تخصصه. هو
الآخر، كان تعامله معي يتسم باللطف والكلمة طيبة. له ولكل الطاقم الطبي، أعبر عن
خالص الشكر والتقدير والامتنان.
يتبع...