بقلم الأستاذ حميد طولست
لكن ، وبكل أسف ، رغم زخم الإعجاب الغامر الذي استحقه البادرة ، وكم الإستحسان الذي نالته من الغالبية العظمى للساكنة التي انخرطت وبكل أريحية وطواعية في المشاركة الفعالة فيها، فإنه وفي الحظة المفصلية في حياة المدينة التي اختار فيها أحد رؤوسائها الفضلاء –رغم حداثة السن- تحرير فضاءاتها مما عرفته من بهدلة الترييف الذي كدر صفو عيش الفاسيين لسنين ، أخلف البعض موعده مع التجديد والتنظيم والتطوير والتحضر، وأصر على الاستكانة لواقع "القرونة" والبدونة ، والاستسلام للطبائع المشينة في التعامل مع تدبير النفايات المنزلية والصناعية ، وإلقائها في الأماكن التي تم تنظيفها ، بدون أدنى وازع بيئي ، أو تحرج من الإساءة لهذا العمل المتميز الجبار ، واهدار لما بدل فيه المنتخبون والسلطة المحلية ومختلف المتدخلين من كافة قطاعات النظافة والإنارة وصيانة الحدائق ، من جهود جبار ، اضطرت الجميع لتكرار العملية بما فيها من هدر للوقت والإمكانيات ، وإصابت المتدخلين بالاحباط ، وقتل التفكير في إطلاق مبادرات أخرى تعود بالنفع على ساكنة المدينة و زوارها ، ودفع بمحبي فاس لطروح التساؤل وبلجاجة : لماذا يرمي البعض أكوامًا من النُّفايات المنزلية ومخلفات تصليحات البيوت في طرقات ووديان وأحضان طبيعة مدينتهم؟
صحيح أن القضية هي قضية " اخلاقيات" يرضع الأطفال قيمها الجميلة في البيت مع حليب الأمهات ، وتتشرب نفوس الشباب مكارمها وفي المدرسة وفي الجامعة وفي المسجد ، إلا أها مع الأسف ، لم تتم في العديد من طبقات محتمعنا– دون تعميم- ما خلق فيه فئة متصلبة العقول متعجرفة السلوك ، بعيدة عن الواقع والواقعية، لا تبصر ولا تسمع إلاّ نفسها ، ديدنها التخلي عن قواعد الأخلاق ، والتفريط في مبادئ المواطنة ، إلى درجة أصبح ، والاستهتار بالبيئة ومحيطها جزءًا من حياتهم ونمطا لعيشهم .
وحتى لا تتعمق هذه الظاهرة/المعضلة أكثر، يجدر بالمسؤولين ألا يتعاملوا معها ببرامج التثقيف والتوعية والتحسيس بالحوارات المتفتحة ، والأفكار النيرة ، والقدوات الحسنة، التي -مهما كانت صدقيتها – لا تجدي معها نفعا، ولا تحد من انتشار خطر أضرارها التي لا تردعها إلا العين الحمراء ، والقبضة الحديدية ، والتعزير والعقاب الذي يجبر ذوي العقول الصدئة غير الواعية ، الذين لا يتحكمون في سلوكاتهم المشينة ، ولا يمنعون ذواتهم من الانغماس في شرورها ، ويلزمهم على حماية أنفسهم وغيرهم من كمية الشر القابع بدواحلهم ، وتنمية الخير لموجود بأنفسهم ، ويجعلوه يطغى على شخصياتهم ، كما جاء في مقولة لعثمان بن عفان: "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع يالقرآن" والتي تعني بأن القوة أقدر على منع اقتراف المحارم من زواجر القرآن ومناهيه..
المقولة التي ذكرتني بحكاية واقعية حدثت معي حين كنت قبل سنين منتخبا بجماعة المشور فاس الجديد ، وكان قسم النظافة بالجماعة أيامها يكابد المتاعب مع الكم المهول من النفايات التي تلقى مباشرة فوق نباتات الحديقة التي تطل عليها نوافد المنازل المتراصة والمكتظة لحي النواول -الموجود بمقاطعة الملاح – والذي لم تنفع في تني ساكنته عن انتهاك الملك الجماعي من التلوث والاتساخ ، وحماية لمحيطهم المعيشي وحفاظا لسلامتهم الشخصية ، لا التوعية والتحسيس ، ولا توجيه نداءات الترغيب في التعاون ، ما دفع بالمجلس للجوء للعين الحمراء ، بعد أن تبين أنه مهما كانت الخطب مهذبة ، فإن الناس لن تنتهي ولن ترعوي إلا إذا أسحت بوقع العقاب ، وخاصة منه المادي ،الذي لا يهابون ولا يخافون غيره ، لما له من وقع بالغ على الجيوب ، وتأثير في تغييّر السلوكات الشائنة ، فطبق المجلس الإجراء ،الذي أتى أكله بإذن الله ، وجاءت النتيجة مدهلة ، حيث بدأت الساكنة تنهج الأسلوب المقبول في تعاملها مع النفايات ، فقلت المرميات من النوافذ إلى أكثر من الثلثين ..
وهنا أتقدم بهذه التجربة المجربة لتجاوز مثل ما تعيشه مقاطعة فاس المدينة وغيرها من المقاطعات ، وإهدائها لكافة الرؤساء والمنتخبين الذين تهمهم مصلحة المواطنين وبيئة المدن التي يسيرونها ، علها تساعدهم في حمل الناس على الإتزام بالسلوك القويم في تعاملهم مع نفاياتهم ، بالتنبيه والتعزير والعقاب -البعيد عن الشفقة المفرطة – الذي تنص عليه جميع قوانين الدول المحترمة لزجر مَن في قلوبهم مرضٌ ، حتى يدركوا ما تناسوه من بديهيات الحقوق والواجبات نحو مجتمعاتهم ، ويكفوا شرورهم عنها ..
وأخيرا وقبل أن اتقد بالتهاني الخالصة لرئيس مجلس مقاطعة فاس المدينة الشاب السيد ياسر جوهر على مبادرته التي لن يغفلها التاريخ وسوف يسجلها بحروف من ذهب ، أود أن أذكره بالصبر والمتابر ، وألا ينسى أن طبيعة الساكنة مختلفة و معقدة ، ويحدثُ أن ينسى الناسُ طبيعةَ الأشياء،ويقعون في المحدورات، نتيجة عوامل كثيرة..