بقلم زهير
دادي
تعتبر رواية الأخوة
كارامازوف، أعظم رواية في تاريخ السرد العالمي، بحسب القراء والنقاد على السواء. وهي
رواية للكاتب فيدور دوستويفسكي. تتضمن الرواية أربعة أجزاء، على مساحة تتجاوز الألف
وستمائة صفحة، والتي ألفها الكاتب الروسي سنة 1880، ولقد قام الدبلوماسي والمبدع السوري
سامي الدروبي بترجمتها إلى اللغة العربية. وقد اعتمدنا هنا على الطبعة الثانية لسنة
2015 والصادرة عن المركز الثقافي العربي ببيروت والدار البيضاء.
سنة 2008، قام
المخرج المغربي شفيق السحيمي بتحويل هذه الرواية الضخمة إلى مسلسل من عشرين حلقة. وبالإضافة
إلى دور الإخراج، فقد لعب السحيمي دور البطولة، كما كان الاقتباس والسيناريو والحوار
من إنجازه كذلك. وإذا كان قد مر على إنتاج المسلسل أكثر من عقد من الزمن، فإن الحاجة
الملحة التي تفرض على المرء العودة إليه من جديد، تكمن في قوة المتن الروائي الذي استند
عليه المسلسل، بالإضافة إلى أنه لم يحظ باهتمام النقاد. فباستثناء مقالة يتيمة عن المسلسل،
ربما، تكاد تخلو الساحة النقدية من دراسات تتناول هذا العمل الدرامي المتوسط الطول.
وتكمن المسألة الثالثة، في أن أغلب الدراسات النقدية حول المسلسات المغربية تركز على
الجوانب الفنية وقدرة الممثلين على التشخيص، ونادرا ما تقترب من ملامسة ودراسة العمل
الدرامي على ضوء السرد الروائي الذي أخذت عنه.
ويحدث أن يصير
العمل الروسي العالمي مغربيا، محليا؛ بل ودْكَّالِيا بامتياز. وباستثناء مسلسل
"وجع التراب"، الذي اهتم به عموم الجمهور المغربي، بغضّ النظر عن مسألة الاقتباس
عن الرواية الفرنسية، ومدى مهنية واحترافية شفيق السحيمي في ذلك، فإن هذا الرجل لم
ينجح في كل شيء تقريبا. لم تشفع له الدكتوراه بالمسرح، كي يصير محترفا في المجال المسرحي
والسينمائي، من حيث التشخيص والإخراج وكتابة السيناريو، وهي المهمات التي يتكفل بها
مجتمعة، دون نجاح يُذكر. لم يستطع الموت شهيدا، وهو الذي يدعي انتماءه سابقا إلى الجبهة
الشعبية لتحرير فلسطين، ولم يستطع أن يكون قاعديا، إذ لم يتناول وجبة الغذاء داخل خيمة
البروليتاريا بجامعة ظهر المهراز بفاس، إلا بعد أن هرم وشاخ حين دعاه المناضل المتبقي
من ألوية الماركسية اللينينية عزيز المنبهي إلى هناك. عاش في المهجر الاختياري مدة
طويلة، ولم يكن لاجئا سياسيا. وعاد إلى الوطن دون أن يحمل همه، فضجر من تخلف الإنسان
وليس البلد، ليعود من جديد إلى أوربا.
الحلقة 1
تنزل السيدة بمحطة
مكناس، بعد أن قطعت مسافة على متن القطار الكهربائي، تخرج من باب المحطة، فتجد عربة
يجرها خيل، يترجل الحوذي ليساعدها في حمل الأغراض، تنطلق العربة في اتجاه المنزل، فتخترق
الشارع المكتظ بالسيارات الحديثة الذاهبة والآيبة في الاتجاهات المعاكسة. في المقابل،
يمتطي السي عبد السلام سيارته الفرنسية الصنع، يسوقها السائق الشخصي ليتوجه نحو المنزل،
وليلتقي هناك زوجته التي وصلت للتو من السفر بمعية طفلها الصغير. هذه هي المفارقة الأولى
التي استهل بها شفيق السحيمي مسلسله الدرامي "تريكة البطاش". يعود بنا المسلسل
هذا، والذي صيَّره المخرج مغربيا إلى أواسط القرن التاسع عشر من تاريخ روسيا القيصرية.
يتوقف الزمن في الماضي لحظة، ثم يعود إلى العصر الحديث لحظات كثيرة. فجأة تتحدث الزوجة
عن العكار الشينوي، في محاولة من المخرج مغربة الرواية الروسية. السي عبد السلام يمثل
هنا دور الأب فيدور بافلوفتش كارامازوف، فيما يمثل الطفل الصغير دور دمتري.
وفي آخر الحلقة
الأولى، تغادر السيدة منزلها وحيدة، تاركة طفلها مع أبيه، في اتجاه طنجة؛ طنجة المدينة
المتواجدة في أقصى الشمال الغربي للمغرب، تعادل من حيث الجغرافيا مدينة سانت بيترسبورغ
الروسية، فيما تحيل مكناس على مدينة موسكو. من حيث التموقع الجغرافي فالاختيار موفق،
دون الحديث عن الدلالات التاريخية والرمزية التي قد نجد فيها تباينا بين المدينتين
الروسيتين مع نظيرتهما المغربيتين.
الحلقة 2
في الحلقة الثانية،
يقسم السي عبد السلام بالله في الكثير من المرات وهو يحلف بشأن زوجته، فيما جاء ملحدا
في النسخة الروسية. السي ادريس يمثل دور العجوز سمردياكوڤ بمعية زوجته واللذان يقومان
بخدمة السي عبد السلام الذي تتوالى سهراته مع نساء كثيرات وهو يحتسي الخمر. ينظم السهرة
تلو الأخرى في منزله الفسيح الذي ينم عن وضعه الاجتماعي المتميز، وتارة أخرى، يسهر
في الحانة. وفي غياب الأم التي سافرت إلى طنجة، ستتولى زوجة السي ادريس العاقر تربية
الابن البكر للسي ادريس. يعيش الصغير في بيت أبيه، غير أنه ينام ليلا في بيت الخدم.
في هاته الأجواء المشحونة والمتسمة بالغياب؛ غياب الزوجة، سيسافر الزوج إلى مدينة الشاون
على متن القطار الذي لا يمر من هناك في الواقع، قصد البحث عن زوجته الفارة من لهيب
السهر والغدر والخيانة. تتوالى الأحداث، فتظهر العديد من الشخصيات الثانوية التي تلعب
دورا تكميليا، مادام أن الشخصيات الرئيسة لم تظهر بعد. ويبقى السارد، الذي أطل في اللحظة
الأخيرة، أهم شخصية تقنية ستؤثث مشهد الحلقة الثانية، حيث أعطى تأويلا معينا للأحداث،
فيما وعد في المقابل بالكثير من التشويق في تتابع الأحداث.
الحلقة 3
يأتي أخ الهالكة
عائشة، فيأخذ ابنها ليتكفل به، وهو الابن الذي لم يكن يحظى باهتمام الأب الساقط في
مجون الليالي الخمرية. في اللحظة نفسها، سافر السي عبد السلام مدة أربع سنوات ونصف
ليصير مقاولا. هنا سيتعرف على سيدة ذابلة، تحمل اسم زايدة، عاد بها إلى ضيعته من جديد،
ليقتلها كمدا وغما كما قتل الزوجة السابقة، وذلك بعد أن خلف منها ابنان. جريجوري فاسيلفتش
كوتوزوف وزوجته هما اللذان سيتوليان تربية الابنين بعد وفاة الأم. الحبيب الصغير يحيل
على أليوشا الراهب، وعزام على إيفان الملحد المعتدل. ثم سيغادران إلى منزل الخالة،
حيث سيعيشان هناك، حتى صارا يافعين، بعدها، سيعودان من جديد إلى منزل الأب.
الحلقة 4
يبيع السي عبد
السلام ضيعته الفلاحية التي يتوسطها منزل فخم، فينتقل للعيش في منزل زوجته الأولى.
تستمر المفارقات العجيبة في هاته الحلقة، ويتعلق الأمر بثمن الضيعة حيث بيعت بخمسة
وأربعين ألف درهما، بينما اشترت الخالة لأبناء الراحلة صندلا بستين درهما لكل واحد
منهما، والفقيه الذي قرأ القرآن في عقيقة وليد السي ادريس سيقبض ستين درهما وقالبي
سكر. إن الثمن الذي اعتمده المخرج قيمة للضيعة والمنزل، يعود إلى أواسط القرن التاسع
عشر من الزمن الروسي، في حين أن الحادثين الآخرين، فقد انضبطا إلى قيمة السعر المغربي
الحالي.
الحلقة 5
تتوالى الأحداث،
ويقفز المخرج على تفاصيل كثيرة، بل، وعلى سنوات عديدة من القصة، بحيث إن الحلقة سوف
تتطرق إلى عودة الأبناء كلهم، بعدما كبروا وصاروا شبابا؛ فتاح، الابن البكر، الملحد
والعربيد الماجن مثل أبيه، عزام، الأوسط، الملحد المعتدل والمثقف الرصين والصغير الحبيب،
البريء والمتدين الذي استشار أباه في الانقطاع عن الدراسة والالتحاق بالزاوية من أجل
التعمق في الدين والتقرب إلى الله. يتعارف الأخوة فيما بينهم رويدا رويدا، مستغلين
تواجدهم بالمدينة نفسها. وإذا كانت العلاقة تميل نحو التشنج بين الأب والابن البكر
فتاح الذي جاء خصيصا ليطالب بحقه في مال أمه المتوفاة، فالعلاقة بين الابنين الآخرين
من الزوجة الثانية، تكاد تكون مستقرة مع أبيهم. في المقابل، يكبر سلام الذي جاء باسم
سمردياكوڤ في الرواية الأصلية، فيمتهن حرفة أبيه ادريس؛ خدمة السي عبد السلام. والفقيه
الورياغلي، ها هنا، يمثل الشيخ زوسيما الراهب الذي آوى أليوشا في الرواية الأصلية.
الحلقة 6
"تقرا حتى
تعيا وتكون عندك جائزة نوبل..." هذا المقطع الذي يرد على لسان عزام، المثقف الملتزم،
يسائل الاقتباس الذي قام به شفيق السحيمي، ذلك أن الرواية "الأخوة كارامازوف"
قد كُتبت سنة 1880، فين حين أن الجائزة المذكورة تم إحداثها لأول مرة سنة 1895، فهل
المسلسل هو بمثابة اقتباس أم إعادة صياغة؟. مهما يكن من أمر، فإن المخرج قد استحضر
في هاته الحلقة، العديد من الأفكار الفلسفية القوية التي ناقش فيها دوستويفسكي مسألة
الدين من وجهة نظر الأب عبد السلام الملحد، مع ابنه الحبيب المتدين الذي وهب حياته
لخدمة الزاوية. يرد على لسان السي عبد السلام: "شْلَّا كْذوب وشلا ذنوب. وكذا
من مرة تمنيت. ماكرهتش شي واحد فصلاتو يكون كايدعي ليا بالمغفرة. ولكن مايمكنش. ما
يمكنش نلقى واحد اللي يقدر يدير معايا هاد القضية. واش فهمتيني. وتِيقْ بيا باللي كنت
ديما كانفكر فيها. ماشي دايْمًا، ولكن كنت كانفكر فيها." مقابل هذا المقطع يقول
دوستويفسكي في الجزء الأول من روايته: "أتساءل منذ زمن طويل: تُرى من ذا الذي
سيصلي لي في يوم من الأيام؟ هل في العالم كله إنسان يمكن أن يصلي لي؟ يا ولدي المسكين،
إنني غبي جدا في هذه الأمور، لو علمت... غبي جدا، صدقني!. ولكن مهما أكن غبيا في هذه
الأمور فقد فكرتُ فيها مع ذلك، فكرت فيها طويلا. صحيح أنني لم أفكر فيها أحيانا كثيرة،
ولكني مع ذلك فكرتُ فيها." ص: 66-67 وفِي سياق آخر، يرد على لسان الحبيب:
"نتسنى شي معجزة... ماشي المعجزات اللي تايخليو الواقعي يميل للإيمان. والواقعي
الصحيح يلا ماعندوش فالقلب كايقلّْب عليه بقوة باش يضحك على جميع المعجزات. واخا يطراو
قدام عينيه ما يْتْيّْقْشْ. واش هو يْكْدّْبْ راسو... ما عْمّْرْ كانت المعجزة هي الركيزة
الأساسية للإيمان." وفي الجزء الأول كذلك الرواية: "إن الواقعي الحقيقي إذا
كان غير مؤمن يستطيع دائما أن يجد في نفسه القوة والقدرة على إنكار معجزة من المعجزات،
فإذا أكدت هذه المعجزة نفسها بحادثة لا سبيل إلى جحودها آثر أن يشك في صدق حواسه على
أن يسلم بالواقع. حتى إذا قرر أخيرا أن يعترف بهذا الواقع عَدَّهُ ظاهرة طبيعية كانت
إلى ذلك الحين مجهولة له أكثر. إن المعجزات لا تولد الإيمان لدى الواقعي. بالعكس: فإن
الإيمان هو الذي يستدعي لديه المعجزات. فمتى أصبح مؤمنا سلم بالمعجزات حتما، بحكم واقعيته
نفسها." ص: 69- 70
الحلقة 7
ركزت الحلقة على
الموسم الذي تقيمه كل سنة الزاوية/الكنيسة بمفهوم الرواية الأصل. يتحلق الناس حول مساعد
الفقيه، فيحدثهم بمجموعة من القصص الدينية المختلفة. ثم يصل السي عبد السلام، يدخل
عند الفقيه الورياغلي/ الشيخ زوسيما، يجد العديد من رجالات الزاوية، فيبدأ في هلوساته
الكثيرة، في تشنجه، في عربدته، في تهجمه على الدين وعلى رجالات الزاوية باستثناء الفقيه
الذي يحترمه، فيما جلس ابن السي عبد السلام الأصغر، الحبيب خلف الفقيه مباشرة دون أن
ينطق بكلمة. ثم يخرج الفقيه، ليتلقي بالزائرات اللواتي تطلبن بركته، بقي الجمع كما
هو. سكت السي عبد السلام منبهرا من ابنه الأوسط عزام، المثقف الرصين والملحد المعتدل
الذي كان يجادل بعض أفراد الكنيسة حول العلمانية وشكل الدولة وسيرورة النضال الوطني
من أجل تحقيق ذلك. وإذا كانت الكنيسة الأرثوذوكسية في روسيا القيصرية سمحت بمثل هاته
النقاشات أواسط القرن التاسع عشر، فإنه في السياق المغربي، يبدو أننا مازلنا لم نصل
بعد إلى هذا الانفتاح في النقاش بين رجل الدين والملحد. هذا المعطى بالذات، يخلق نوعا
من التشويش على الاقتباس، إذ يبدو هذا النقاش سرياليا في السياق المغربي، بل ومستبعدا
في أحسن الأحوال. يلتقي الفقيه مع الشابة المقعدة خيرة التي جاءت مع أمها غير المؤمنة؛
زينب، هي ليست ملحدة، بل شاكة في كل شيء، وتنتظر معجزة من أجل الخروج من مأزقها الوجودي.
يعد الحبيب/ أليوشا الطفلة المقعدة بضرورة زيارتها في أقرب الآجال. هنا ستنصرف المقعدة
خيرة/ ليزا بمعية أمها السيدة زينب/ خوخلاكوفا كاترينا. والإشارة المهمة التي لا تخلو
من تشويق هي تلك الرسالة التي أرسلتها آجرافينا للحبيب عن طريق ليزا. تنتهي الحلقة
بوصول عبد الفتاح، الابن البكر إلى الزاوية...يتبع.