بقلم عبد الحي
الرايس
سكانُ المدن يتزايدون،
وكلما ابتعدُوا عن الحقول اعتلُّوا وقسَتْ قلوبُهُم أكثر .
قرِّبُوهُم من
الطبيعة تُدْنُوهُمْ من الخيْر أكثر.
فكثافةُ البنيان،
وقتامةُ الجدران تُشِيعُ الكآبة في الإنسان، تُفْسِدُ الطباع، وتبعثُ على العنف والعدوان.
وفي الفضاء العمومي
شَجِّرُوا بتصْميمٍ ورُؤيَة:
وَسَطَ الأحياء
حيث تضيقُ الدروب يَحضُرُ النارنج بقامته المُعْتدلة، وخُضْرتِه الدائمةِ الممْزوجةِ
بِصُفْرةِ الثمار العالِقَة، وبَياضِ الأزهارِ الفوَّاحةِ الناصعة.
ويَتفرَّدُ كلُّ
حيٍّ بحديقةٍ تُمْتِعُ صغارَه، وتُبْهِجُ كبارَه، وتشكِّلُ رئتَهُ ومَلاذَه، تتخللها
الخمائل، تملأ جنباتِها الأشجار، وتُرصِّعُ أحواضَها الشجيْراتُ والأزهار، تتضوَّعُ
بالأشْذاء، تُرْسِلُ بِرْكتُها الرَّذاذ، وتُغرِّدُ بها الأطيار.
وبالساحات، وعلى
جنبات الأزقة والشوارع، تَحْضُرُ الأشجار، تنشُر الظلال في تناغم وانسجام بأحدها، وتَنوُّعٍ
مقصودٍ للإعلان عن تمايُز الفصول عند الانتقال منه إلى غيره.
فهذا شارعُ الْأُرْجُوَان
(Arbre de Judée ) بأزْهاره الورْديَّة تُغَطِّي الأغصانَ قبل الْإِيرَاق، مُعْلِنَة
عن مَقْدَمِ الربيع الْمُزْدَانِ بالْبَهاء.
وهذا شارعُ الجكرندة
( Jacaranda)
بأزهارها البنفسجية تكسُوها وتنْثرُها سَجَّاداً على امتدادِ الطريق، مُعْلِنَة عن
حُلُول الصيفِ بالْحَرِّ واللَّفِيح.
وذاك شارعُ الدَّرْدَارِ(Frêne ) تُورِقُ أشجارُهُ في ثنايا الشتاء،
مُوذِنَةً بدبِيبِ نَسْغ الحياة بَعْدَ بَيَات.
وفي الضاحيةِ أشجارُ
الدُّلْبِ ( Platane) تُسْقِطُ أوراقَها الذَّاوِيَةَ خريفاً، وتسْتعِيدُها ربيعاً، وتنْشُرُ
ظِلالَها صيْفاً في دَعَةٍ وصَفاء.
وبالقلْب النابِضِ
للمدينة "حديقةُ نباتٍ" (Jardin Botanique ) تسْتقطبُ أصنافَ النبات، تُبْرِزُ القريب، وتسْتحضِرُ البَعيد، تُعمِّمُ
الدراية بالنبتة، وتُنمِّي الْوَلَعَ بها، هي مُتْحَفُ الزائر، ومَقْصِدُ الباحِث،
وطِلْبَةُ السائح.
وعلى مَشَارِفِ
المدينةِ مُتَنَزَّهَاتٌ وغاباتٌ هي مَرَاتِعُ ومَرَابِعُ ومَصَايِف، هي مُنْتجَعٌ
ومُسْتراحٌ لكل قاصِد.
التصْميمُ الأخضرُ
للمدينة مَسْؤوليةُ كل جماعةٍ تُعْنَى بتدبير الشأن الحضري تُعِدُّهُ رَصْداً، وتُكْمِلُهُ
استشرافاً وعَقْداً، فتسْهَرُ على تحقيق التوازن بين المعمار والمجالات الخضراء، تأميناً
للصحة البدنية والنفسية للسكان، وهي بذلك تنْشرُ وعياً، تُشِيعُ ثقافة، تُلطِّفُ جوّاً،
وتمْلأ النفوسَ بَهْجة وانْشراحا .