بقلم زكرياء التلمساني
أي خطاب سياسي
في جوهره إما أن يكون خطابا تدبيريا أو أن يكون خطابا تأسيسيا، وبينهما يتأرجح نوع
ثالث يمكننا تسميته بالخطاب المسيس. هذه هي الفكرة المركزية لهذا المقال والمدخل الواضح
لجهازه المفاهيمي. إن الخطاب السياسي كموضوع للدراسة والتحليل، قد حظي بمساحة واسعة
من الإنتاج العلمي بعد ولادة ظاهرة الشعبوية، ذلك، أن خطاب زعيم شعبوي أو يميل إليها،
أي الشعبوية، يصعب تصنيفه تارات عدة في خانة خطابية معينة انطلاقا من مرجعيته الإيديولوجية
أو مواقفه الحزبية. ونقترح هنا أن يحلل الخطاب ماديا، استنادا على العناصر اللسانية
الباصمة والمؤشرة على ذاتية السياسي الحامل لهذا الخطاب الشعبوي.
نقصد هنا بالخطاب
التدبيري، ذلك الخطاب الآتي على لسان مسؤول حكومي أو رجل من رجال جهاز الدولة الحاكم،
يدبر بواسطته مرحلة، أزمة، مشكلة عالقة، غضبا شعبيا أو غيرها من الوضعيات. أما بالنسبة
للخطاب التأسيسي فهو غالبا ما يكون خطاب معارضة تؤسس لمشروع بديل، سياسة جديدة، أو
رؤية متغيرة، فيجعل هذا الخطاب من الديمقراطية والمساواة جهازا له. ويغدو الخطاب المسيس
المتأرجح بين النوعين الأول والثاني خطاب المقاهي والنقاشات العائلية والمقالات الجرائدية،
لأنه لا يدافع على خط سياسي ثابت بل يأخذ في أغلب الأحيان شكل التعليق.
إذ نؤكد على أن
عناصر متعددة تتداخل في بناء هوية الخطاب الشعبوي. فهناك من يجعل لنفسه تقسيم الشعب
واحتكار تمثيليته وتخوين الآخر وتبخيس رأيه، باعتباره مدافعا عن مصالحه الشخصية العنصر
الأهم. وهناك من ينهج أسلوبا بهلوانيا رديئا يوصل من خلاله صوته إلى عموم الشعب. ناهيك
عمن يساهم في خلق وتفاقم الأعطاب الديموقراطية في تنظيمه من أجل الاستفادة من الوضع.
فالسياسي، إما ينفرد ويتميز بعنصر من هذه العناصر اللسانية في خطابه، وإما أن يوحدها
في قالب خطابي واحد جاعلا من خرجاته مرحليا حدثا إعلاميا بارزا يتموقع به في الحقل
السياسي.
أولا، في واقع
الحال، احتدم تنامي ظاهرة الشعبوية مع تنامي خطاب الإسلام السياسي واليمين المتطرف
وصعودهما إلى السلطة. لذلك، كثيرة هي الدراسات التي ربطت هذه الظاهرة بالمرجعية الإيديولوجية
المزكية للنزعات الدينية والعرقية، المرجعية التي تجد في تقسيم الشعب إلى نخبة فاسدة
وشعب طاهر مثالي رومانسي فرصة سانحة لتمرير خطابها. ولكن، في المقابل، ولأن تصنيفنا
لم يبن على المضمون الإيديولوجي للخطاب الشعبوي، فإن عبارات بهلوانية تثير الانتباه
وتجلب النظر، قد نجدها أيضا في خطاب يساري، كما هو الأمر مع عبارة عمر بلافريج
"أنا ماشي بهيمة"، والتي تشبه من حيث الوقع عبارة عبد الإله بن كيران
"واش فهمتوني ولا لا". إن اعتماد عنصر من عناصر الشعبوية في الخطاب التأسيسي
يفسده ويحوله إلى مجرد خطاب باحث عن تواجد براديغم نظام الخطاب السائد، حتى يلقى استحسانا
من طرف الجمهور.
ثانيا، إن احتكار
تمثيلية الشعب في مؤسسات الدولة ممارسة سياسية ناجمة عن تضخم الأنا وذاتية السياسي.
فلما تتحول هذه الممارسة إلى عنصر خطابي، خصوصا عند ممثل الشعب في المؤسسة البرلمانية،
يفقد الخطاب التأسيسي طابعه الشعبي التعددي كونه صفة ملازمة لهذا النوع الخطابي، أو
ما أقدم عليه عمر بلافريج مثلا من عدم التقدم بمقترح تسهيل عملية عودة المغاربة العالقين
بدول المهجر إلى ديارهم ممارسة تدبيرية لا تأسيسية، تحول دوره من معارض ومؤسس لحلول
بديلة إلى مدبر لجائحة كورونا المعولمة شأنه شأن الحكومة. فمادية التحليل تقتضي منا
إعطاء بعدين لهذه الممارسة، الأول حرفي والآخر ضمني، فالثاني من البعدين يحيلنا على
فهم طبيعة الممارسة كصراع شخصي مع طرف نقيض. والحال أنه إذا صح هذا المعنى الضمني للممارسة،
فإن الحقل المفاهيمي لتحليلنا ينتزع من النائب البرلماني صفة التأسيس في فعله السياسي،
لأن الصراع الديمقراطي لا يكون على حساب المواقف التنظيمية للقوة السياسية الممثلة.
فضمن سياق متسم
بتهالك البيئة الحزبية وانعدام الثقة بين المؤسسات والمواطنين، لم تعد المعارضة الرسمية
في مطلع القرن الحالي تبني خطابها على خطاب عقلاني يؤسس لبدائل عقلانية. كما صارت هذه
المعارضة تحمل خطاب الوعود الانتخابية تصنع به مرحلة ما قبل الانتخابات، لتعود في حال
فوزها بخطاب تدبيري لم يتغير كثيرا عن سابقه، لأن خطاب الوعود ليس خطابا تأسيسيا قط.
فإذا كان غياب مؤسسات سياسية في المجتمع المغربي تلعب دور الحصن المنيع ضد انتشار واسع
للخطاب الشعبوي، اشتدت مطالبة النخبة المثقفة بخطاب عقلاني حداثي يميز كينونة كل مؤسسة
حزبية على حدة ويحترم ذكاء المواطنين. وإذا كان أي سياسي يرى أن الخطاب الشعبوي خطة
لغرض في نفس يعقوب، فإن تبعاته الباطنية وغير المرئية في حينها مجتمعيا قد تكون وخيمة
لما ينتجه من تأبيد اليأس وانسداد الأفق. مما عجل من ضرورة ولادة يسار ديمقراطي.
ختاما لما قيل،
يمكننا الجزم أن أي خطاب يتحدد انطلاقا من موقعه الزمكاني، وأن هوية المخاطب خطابيا
ومجتمعيا تعتمد أساسا على نوع الخطاب المحمول، أي خطاب تدبيري للشأن العام أو تأسيسي
لفعل سياسي أو مسيس فقط. ومن هنا نلاحظ أن خطاب النائب البرلماني عن اليسار الديمقراطي،
عمر بلافريج، قد مال كثيرا إلى الشعبوية وأن الدفاع عن مشروع الحزب الاشتراكي الكبير
لن يكون إلا بالعودة إلى الخطاب التأسيسي الحقيقي.