قصة في ثلاثة مقاطع
بقلم عبدالغني
فرحتي
" إنا لله وإنا إليه راجعون، عزاؤنا واحد، صديقي.
" كل نفس ذائقة الموت". حافظ على هدوئك وثباتك. هذه سنة الله في خلقه".
بهذه العبارات عبر يوسف عن مواساته لصديقه المدني
الذي اجتاحته موجة من البكاء حزنا على فراق "ست الحبايب". بعد ذلك، بادر
إلى الاتصال بالمصالح البلدية التي أرسلت طبيبا والذي بعد أن تأكد بأن الوفاة طبيعية
ولا علاقة لها بالوباء المنتشر، وقع على رخصة الدفن. إثر ذلك، حضر عنصران من الوقاية
المدنية اللذان وضعا الفقيدة بسيارة الإسعاف وبجانبها ركبا المدني ويوسف.
" يا ربي" ــ يخاطب المدني نفسه ــ "الحاجة المعروفة
بالحي والمدينة، الحاجة التي لها أقارب ومعارف في كل مكان، ها هي الآن " تزف"
إلى قبرها وحيدة وبهذا الشكل، لا يشيعها سوى رجلين اثنين. حتى الصلاة على الجنازة في
المسجد، كما جرت العادة حرمت منها، يا ربي. أيملك فيروس كورونا كل هذه القوة والجبروت
لتصير الأمور هكذا. يا الله، يا الله، إنا لا نسألك رد القضاء، ولكن نسألك اللطف فيه".
عدا رجلي الوقاية المدنية وعاملين من حفار القبور،
كان هناك بالمقبرة رجل أمن يمنع أولائك "الطلبة" الذين "يسترزقون"
بتلاوة القرآن من الاقتراب من القبر. انتهت مراسيم الدفن وزادت وحشة المكان وأجواء
التشييع الاستثنائية من حزن المدني وآلامه.
استحضر المدني
كل ذلك ثم تمتم قائلا: "الحمد لله، على كل حال، أن يوسف معي يساعدني على مواجهة
هذه المحنة" . أما نجاة، أختي، فرغم أني حاولت، في البداية تجاهل مكالماتها، مراعاة
لوضعيتها الصحية كحامل تنتظر أن تضع مولودها في أية لحظة. إلا أنني، خوفا عليها، وهي
التي اعتادت أن تتصل بوالدتها يوميا بالصورة والصوت، لم أجد بدا من الكشف لها عن الحقيقة".
عاد المدني إلى البيت بصحبة يوسف الذي ظل إلى جانبه
مؤنسا ومواسيا. إجراءات حالة الطوارئ الصحية المفروضة منذ أيام، ألزمت الأقارب والجيران
بالاكتفاء بتقديم عزائهم هاتفيا. كان يوسف واعيا أن آلام صديقه شديدة وهو الذي فارق
والدته في هذه الظروف الاستثنائية. كان يدرك أيضا، ورغم كل شيء، أن بال المدني سيظل منشغلا ومتعلقا أيضا بمصير زوجته وولده اللذين انقطع
الاتصال معهما فجأة، خاصة وأن الأخبار القادمة من إيطاليا لا تبعث إطلاقا على الاطمئنان.
عبثا حاول المدني
معاودة الاتصال مرات عديدة بالزوجة والابن لكن دون جدوى. كم كان يوسف يرق لحال صديقه
ويتمنى لو كان بإمكانه أن ينجح في إيجاد وسيلة تتيح له معرفة مصيرهما. وبينما هو على
هذه الحال، فجأة قفز إلى ذهنه إسم صديق مشترك لهما، يقيم هو أيضا بالديار الإيطالية،
غير بعيد عن المدينة حيث يقيم المدني. بحث في ذاكرة هاتفه عن رقم ذلك الصديق، خرج إلى
باب الشقة ثم اتصل به مستفسرا.
" دقة تابعة
دقة، وشكون يحد الباس" هكذا رددت مجموعة ناس الغيوان وهذا ما تبادر إلى ذهن يوسف
وهو يستشعر هول ما حدث.
" أخي، لا
أخفي عنك الحقيقة. أجد صعوبة في إخبارك بما وقع". صمت قليلا والبكاء يغالبه ثم
قال :
" انتظر،
سأبعث لك برسالة صوتية تلخص مستجدات الوضع هنا. تمنعني دموعي من الكلام".
ما هي إلا دقائق
معدودة حتى وصلت هذه الرسالة:
"الوضع بإيطاليا كارثي جدا. الضحايا بالآلاف،
والموت تفوح رائحته في كل الأمكنة. للأسف، زوجة المدني توفيت نتيجة تداعيات إصابتها
المفاجأة بالوباء. لا أحد كان يتوقع أن هذه السيدة الجميلة الرشيقة المواظبة على تمارينها
الرياضية ستكون ضحية العدوى. لا أحد حضر جنازتها، فالجيش، وأمام تفشي الجائحة ومحاولة
تطويقها، أصبح هو من يتولى تشييع الضحايا نحو مثواها الاخير. وأما الولد أدم، فهو ولله
الحمد، وإن كان يخضع لإجراءات الحجر الصحي بالمنزل، إلا أنه تأكد عدم إصابته بالفيروس.
الغريب في كل هذا، أنه في مقابل هذا الوضع الحزين والمؤلم، مقاولة المدني، "مالديني" لا تزال تشتغل والطلبات
على التوابيت في ارتفاع ورقم المعاملات تضاعف كثيرا".
رجع يوسف إلى داخل البيت، بعد أن أعاد الاستماع للشريط،
ونيران الحزن والآلام تمزق أحشاءه. وجه نظره نحو المدني الذي وجده قد أخذته سنة من
النوم وهو يتساءل:
"ترى كيف سيكون حالك حين ستتلقى هذه الأخبار
الصادمة؟ فقدت الأم، لكن على الأقل، حضنتها وشاركتها ترداد الشهادتين حين أزفت ساعتها،
ولعل في ذلك بعض العزاء. أما وأن تفقد الزوجة هكذا فجأة من دون أن تودعها ومن غير ن
تحضر جنازتها، وأن تطلع على الخبر في نفس اليوم الذي ماتت فيه والدتك، فهذا وزر لا
يطاق. كان الله في عونك".