قصة في ثلاثة مقاطع بقلم
الأستاذ عبد الغني فرحتي
استفاق المدني
من سبات عميق، بعد انصرام ثلاثة أيام متواصلة، لم ينعم فيها بطعم النوم العميق ولا
استمتع بقسط من راحة البال. استفاق وهو يمني النفس بأن يكون ما عاشه ولا يزال يعيشه،
مجرد حلم، مجرد كابوس لا يلبث أن يتنحى ليتسنى له استعاده السكينة والاطمئنان. لكن،
هيهات هيهات، نظرة واحدة، بعد أن غادر سريره، نحو المكان الذي دأبت الحاجة على الجلوس
فيه واضعة بين يديها السبحة، مكبرة ومسبحة وملتمسة اللطف من الخالق، كانت كافية لإدراك
أن كل ما حصل هو حقيقة وواقع. كان المكان خاليا زاد من خلوته غياب أدعية الحاجة التي
ألف المدني أن يفتتح بها يومه متفائلا، كلما حل بالبلد.
لم يقو على الاستمرار واقفا ولم يشعر بأي رغبة في
الطعام. امتد على الفراش محاولا استرجاع شريط أحداث توالت مسرعة، تفيض حزنا ودموعا.
بدأ كل شيء حين اتصل المدني، المغربي، المقيم بإيطاليا منذ ما يناهز العقدين، كما هو
معتاد، بوالدته الحاجة عائشة، فأحس من كلامها المتقطع أنها جد مريضة. على التو، حجز
له تذكرة بالطائرة. كان ذلك، خلال بداية الأسبوع الأول من شهر مارس 2020.
المدني، أو مالديني،
كما اعتاد الناس تسميته هناك، يمتلك، صحبة زوجته الإيطالية، مقاولة صغيرة لصنع التوابيت.
رزقا ولد، اسمه أدم، هو الأن في ربيعه التاسع عشر. أوصلته زوجته إلى مطار المدينة.
عانقته بحرارة شديدة وهي تودعه. فالأخبار القادمة آنذاك من الصين والحالات الأولى لوباء
كورونا المسجلة بإيطاليا لا تبعث على الاطمئنان.
الحاجة عائشة سيدة أرملة منذ سنوات. رزقت بولد
هو المدني وبنت هي نجاة، المقيمة في كندا وهي حامل في شهرها التاسع. كانت الحاجة تستعد
للسفر لتكون بجانبها حين تقترب لحظة الوضع، لكن المرض باغثها وبشدة هذه المرة. حطت
الطائرة، فتفاجأ المدني بتشديد الإجراءات الهادفة إلى الكشف عن حاملي فيروس كورونا.
في اتجاهه نحو البيت، أخذ معه الطبيب الذي اعتاد أن يكشف عن الحاجة. بعد أن فحصها وقد
بدت متعبة جدا رغم الانشراح الذي بدا على وجهها وهي تحضن المدني العائد، اكتفى الطبيب
بوصف بعض المقويات والفيتامينات فقط ولم يشجع على نقلها إلى المصحة.
كانت جهود المدني تتأرجح بين الانتباه لأحوال والدته
والعناية بها وبين متابعة أخبار الفيروس اللعين الذي بدا كالتسونامي يحصد المزيد والمزيد
من الضحايا، خاصة بعد أن غدت إيطاليا تشكل بؤرة كبرى للوباء في قلب أوروبا. وقد تضاعف
القلق لديه حين بدأ المغرب، هو الآخر، يسجل الحالات الأولى للمصابين. وهو ما دعا، وفي
إطار الإجراءات الاحترازية التي اتخذتها السلطات المغربية من أجل تطويق الجائحة، إلى
فرض حالة الطوارئ الصحي.
" يا للهول،
كيف لدولة مثل إيطاليا أن تستسلم لجبروت الوباء؟ ما لعداد الضحايا يشتغل دون توقف؟
صرت أهاب الاتصال بزوجتي، بولدي، بالعمال الذين يشتغلون في مقاولتي الصغيرة. يا ربي،
نسألك اللطف". هكذا كان المدني يخاطب نفسه للحظات لا يوقفها إلا أنين والدته التي
أنهكها المرض وتدهورت حالتها بسرعة.
حين فرضت حالة
الطوارئ الصحية، لم يعد يؤنس وحدة السيد المدني ويساعده على العناية بوالدته، سوى صديق
طفولته يوسف، المدرس بوزارة التربية الوطنية.
" يا إلهي،
لماذا لا ترد زوجتي عن مكالماتي المتكررة؟ هل يكون حصل لها سوء؟ وآدم، ابني هو الآخر،
لماذا أمسك عن الاتصال بي؟ والسيد ألبرتوALBERTO الذي يتولى الإشراف على المقاولة كلما غبت، كيف له
أن يدعي أنه لا يعلم عنهما شيئا؟ وما لهذا الهاتف قد صام عن "الكلام" فجأة".
أسئلة عديدة أمست هواجس تسكن بال المدني ولا يجد لها جوابا فتتحول إلى قلق يخنق أنفاسه.
يتذكر المدني " كان اليوم يوم جمعة وخلال الساعات
الأولى من الصباح، لاحظت أن الحاجة قلت حركتها وأصبحت تتنفس بصعوبة والعرق البارد يغزو
كل أطراف جسدها المنهك، أحسست بأن الأمور تسوء، لم أجد مناصا من الاتصال بيوسف الذي
حضر على الفور. بقينا إلى جانبها، نحن الاثنين، نذكر الله ونرتل آيات من القرآن. وما
هي إلا لحظات حتى أسلمت الروح إلى خالقها بعد أن نطقت بالشهادتين وهي في كامل وعيها".