بقلم الأستاذ حميد طولست
في مثل هذا اليوم من كل سنة، يتجدد الخلاف الفقهي ويكثر الجدل والنقاش الاجتماعي
حول مناسبة عيد الحب، أو عيد العشاق، الذي
تحتفل به اليوم - ولو بصورة رمزية وغير رسميةورغم اختلاف مسمياته- الكثير من دول العالم
المتحضر تقريبا، في الرابع عشر من شهر فبراير من كل عام..كما احتفلت به، وفي تواريخ
ومواعيد مختلفة أقدم حضارات الأرض ، من السومريين والبابليين، واليونيين، والعرب، إلى
أحمد أمين الذي جعل من يوم 4 نونبر موعدا للاحتفال بهذا العيد القديم وغير المستحدث،
كما يتصور الذين يقرنونه بقصة القديس "فلانتين".. سبب اشتداد حدة الجدل حول
شرعيته من عندها ، والذي تعددت في الآونة الأخيرة، حوله الحكايات، والأقاويل والأساطير
والفتاوى، كل الحدود، وفاقت كل التصورات، بين مؤيد ورافض، حيث يرى بعض من علماء الدين،
أن مثل هذه الاحتفالات بدعة وتقليد، يرحم على المسلم القيام بها، بحجج تقليدية مكرورة
و غير مقنعة تجاه أي أمر مستحدث ، وبدعوى التشبه بالغرب، كما يرى البعض الآخر، ويؤكد
أن تبادلهم الهدايا التي تعبر عن الحب في مثل هذا اليوم ليس له علاقة بالمعتقدات الدينية.
ولا زال الكثير يتذكر إحدى فتاوى الرافضين، التي سبقت لبعض الجماعات المُتشددة
أن نشرتها على مواقع التواصل الاجتماعي تحذر فيها الناس من مغبة الاحتفال بعيد الحب،
وتهدهم بالجلد إن هم فعلوا أو ظهرت على وجوههم ملامح الفرح وعلامات البهجة بمناسبته،
والتي ورد فيها: "سنجوب الشوارع فى يوم ما يسمى "عيد الحب" ومن تظهر
عليه علامات الاحتفال به سنجلده 80 جلدة على الملأ، ولقد أعذر من أنذر.
وليست هذه هي الفتوى الوحيدة، التي أثارت موجة من ردود الفعل الساخطة، والتعليقات
الساخرة، على مواقع وشبكات التواصل الاجتماعي، بل عجت الكثير من المواقع والفضائيات
الإسلاموية بما لا يعد ولا يحصى من الفتاوى الظلامية السادية ، التي لا يمكن أن يستوعبها
هذا المقال، لذلك أكتفي بإحدة فتاوى الغريبة لــ"أبو إسلام" -احد الدعاة
المصرين المتشددين، مالك قناة الأمة الفضائية التي جاء فيها "إن الجميع مُطالب
بعدم ارتداء اللون الأحمر اليوم، وعدم استخدام هذا اللون، بما في ذلك النادي الأهلي
مؤكداً أن عيد الحب هو بمثابة "عيد الزنا والدعارة"..
كم هو غريب ويدعو للذهول ، أمر رجال الدين الذين يُحرمون على المسلمين المحبة،
كسِمة من السِمات التى فطر الله عليها الإنسان ، ويدعونه ليكون عنيفا حاقدا متجهما
عبوسا غليظ القلب، ليس في قلبه رأفة ولا رحمة، يستهين مشاعر المحبة الإنسانية، ويكره
مد جسور المودة والتآلف والتآخي والتآزر مع غيره، ويعوضوها بقذائف الدم وأسلحة الدمار
التي تحول حياة العباد إلى جحيم..
فكيف لهذه العقول الضيقة والقلوب العنيفة، التي تعشق الظلام وتكره النور والزهور
والورود، أن تتذوق لذة الحب، سواء في شقه المُطلق الشامل لكل مخلوقات الله التي تُشاركنا
الحياة، من حيوان وطير ونبات وطبيعة، أو في شقه المتعلق بالمجال الرمانسي العاطفي الذي
يأتي على رأسه حب الرجل للمرأة ، الذي جعله الله غريزيا بينهما، مند خلق الله آدم وحيداً
وخلق له حواء التي لن يقدر على العيش وحيداً بدونها ك"مُعين ونظير له".
وكيف لهؤلاء الذين يقرنون الحب بالجنس الهمجي الفاحش، ويرفضون تعامل الذين الإسلامي
الراقي مع ما يملأ جوانب النفس البشرية، من سامي المشاعر المشبعة بمعاني الانتماء الصادق،
والولاء الخالص، والحرص الكامل ومد جسور المودة، ذلك الحب الطبيعي المنفتح الراقي الذي
لا مكان فيها للانفلات والانحلال والتنصل من المسؤوليات الأخلاقية أو الحيثيات المنطقية..
لا ورب السماء، لن يعرفوا حقيقة الحب النقي، ولن يدركوا مشاعره السامية الرقيقة النبيلة
التي تحول المحب من إنسان شرس إلى ملاك خير ووديع، وتُطلق لسان العيي، وتفتح حيلة البليد،
وتبعث على النظافة وتزين الملبس والمسكن، وتطييب المطعم، وتدعو إلى البدل والعطاء،
وتحول البخيل إلى جواد، والقطوب إلى طلق بشوش، والجبان إلى شجاع مقدام، والغليظ إلى
طيب سمح ، و الجاهل إلى لبق متأدب ، وباقي الصفات النبيلة التي يدعوا إليها الإسلام
..
وأنى لهم أن يتمتعوا بتسامح وصفاء المحبين، الذي هيأها سبحانه وتعالى لعباده
الصالحين ليسعدوا في دنياهم ويفوزا في آخرتهم، بعيدا عن بثقافة الموت والجهل، ولغة
قذائف الدم وأسلحة الدمار، ولا يسعون جاهدين إلى تحويل كل سُبل المحبة والسعادة إلى
كراهية وتعاسة سوداء، والتطرف الشاذ الرافض لدعوات الله للمودة والمحبة بين البشر،
والتي لم يحفل بها كتاب الله الكريم بالحديث عبثا، بل لغاية سامية، كما ورد فى قوله
تعالى فى سورة المائدة آية 82 "لتجدنَ أشد الناس عداوةً للذين امنوا اليهود والذين
اشركوا ولتجدنَ أقربهم مودةً للذين أمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين
ورهباناً وأنهم لا يستكبرون"، وكما فى سورة الروم آية 21 قوله تعالى "ومن
اياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودةً ورحمةً إن في ذلك
لآيات لقوم يتفكرون" ، وكما ورد ايضا فى سورة هود آية 90 قوله تعالى "واستغفروا
ربكم ثم توبوا إليه ان ربي رحيم ودود"، أو كما جاء فى الآية 23 من سورة الشورى
حيث قال تعالى "ذلك الذي يبشر الله عباده الذين امنوا وعملوا الصالحات قل لا أسالكم
عليه أجراً إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور"
، وكما ورد فى الآية 7 من سورة الممتحنة قوله تعالى "عسى الله ان يجعل بينكم وبين
الذين عاديتم منهم مودة ورحمة والله غفور رحيم" .وصدقت آيات الله الكريمة هته
وغيرها كثير- والتي لا يتسع المجال لذكرها كلها هنا- في كل ما جاءت به لإظهار قدرة
المحبة على إنارة أرواح البشر وتخليصها من شرور الكراهية والبغضاء ، وتذكير الإنسان
بإنسانيته وتميزه عن غيره من المخلوقات..
ختاما، وحتى نخرج من ظروف العداوة ولغة الكراهية والموت القاسية، التي فُرضت
علينا في هذا الزمن الخداع ، الذي يُصدق فيه الكاذب، ويُكذب فيه الصادق، ويُخون فيه
الأمين، ويُؤتمن فيه الخائن، وحتى تسود عالمنا المحبة والتسامح والصفاء والوفاء والإخلاص
كل القلوب، أدعوا الجميع أن يحبوا ويعشقوا ، ويغنوا ، ويرقصوا في هذا اليوم، وفي كل
أيام الله الجميلة، وليحضن بعضنا البعض برغبة قوية في خلق عالم جديد لا يعكر صفوه مطبلي
الأنظمة الظلامية الفاسدة والعتيقة، الذين لربما تسمع قلوبهم يوما غنائنا و تصغي لرقصنا،
فيتسلل الحب إلى مشاعرهم، وينثر النور في قلوبهم بديلا عن لما يملأه من ظلام الجهل
وقذائف الكراهية ، ويحيلوا حياتهم ، قبل حياة الناس إلى جنة على الأرض ، لأن الحب هو
رحمة الله التي تجعلنا نتشبث بالأمل وننتظر الغد المُشرق دون أن نيأس أبدا ..