adsense

/www.alqalamlhor.com

2018/04/15 - 12:28 م



بقلم الأستاذ حميد طولست
من باريس
على الرغم من كون المسيحية هي أكبر ديانة في فرنسا إلا أنه نادرا ما نصادف من يتمظهر فيها بسمات التدين بهدف تحقيق المكانة الجماهرية المؤثرة ، سياسيا أو اجتماعيا، أو لكسب ثقة الناس واحترامهم ، وبالتالي قلما نجدهم يفرطون في الحديث عن الدين ويتركون الناس تراهم في تصرفاتهم وسلوكاتهم المعبرة عن إيمانهم الحق بمعتقداتهم النابعة عن علمهم ومعرفتهم بدينهم ، الذي يدعو –كما أي دين آخر-إلى التحلي بمكارم الأخلاق وجميل الصفات والتمسك بأفعال الخير ، بخلاف التدين الشكلي "المظهري" الذي يمارسه الكثير من اصحاب النفوس المريضة الذين يتقمصون شخصية الرجل المسلم الزاهد التقي الملتحف برداء الدين، ويعملون على تكريس هذا المظهر لدى أوساط العامة والخاصة، عبر بعض المظاهر التي وقفت عند واحدة منها بل  واخطيرا والتي صارت في غفلة منا ومن التاريخ مرضا مزمنا يحتاج للدراسات المعمقة لمعرفة أسبابها ودوافعها ونتائجها وكل ما له صلة بها ،والمتمثلة في تديين كل شيء ،  وتحويل أي نقاش علمي او عقلي حول أي موضوع في أي مجال من مجالات الحياة ، السياسة ، الفكر، الاقتصاد، الاجتماع، التعليم، الثقافة، الادب ، والفنن ، إلى نقاش ديني وتبريره حسب الرؤية الدينية المتخلفة و نسبه للدين  بدون علم ، وضدا في أمر الله سبحانه وتعالى في الإسراء 36 : "وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ " الهواية التي تستهوي الكثير من المتشددين ، وخاصة حينما يتعلق النقاش بالمرأة والحجاب وضرب الزوجة ، وتحريم الاختلاط ، ومنع زواج المسلمة من غير مسلم ، وقضايا الردة ، والجهاد ، والسبي ؛ السلوك الذي يواجهنا اينما ولّينا وجوهونا، حيث أننا وبمجرد أن نفتح أي نقاش ، أو نحاور أي أحد إلتقيناه في أي مكان من منطقتنا الموبوءة ، حد التخمة، بـ "التدين الظاهري" ، الذي جرفه علينا الربيع العربي وخلفته جراح التطبيق الحرفي للنص والتأويل السلفي للتراث ، الذي يعيق العقل العربي ويشل قدرته على التطور والإبداع والتجدد ، نتفاجأ ونصاب بالذهول والحيرة ، أمام إنحراف محدثنا بموضوع النقاش ، دون وعي منه أو بوعي ، إلى نقاش ديني ، حسب الفهم السائد لديه عن الدين المحرف والمعزز بالفتاوى فوضى الفتاوى التي تهدد استقرار المجتمع وتمزق نسيجه بالتحريض على الكراهية والمذهبية ، والشروحات والتفاسير المستوردة من ثقافة القبور التي يزخر بها ثرات السلف المزور للحقائق الدينية والمشوه لها ، والبعيد كل البعد عن الفهم الصحيح للدين والمنطلق من الدراسة الموضوعية للقرآن الكريم .
ولكي لا نختبئ خلف أصبعنا ، وحتى يعي من له شك فيما قلته ازاء هذه الظاهرة المعقد - التي ربما لم يلق عليها الضوء الكاف ، أو لم يلق عليها أي ضوء على الإطلاق - وما لها من خطورة في خدش صفاء الدين الحنيف ، أورد هنا بعض النماذج الصارخة  لسلوكيات أولئك الذين يدعون الالتزام الديني في مقالاتهم ، ويواظبون على افساده بأفعالهم و أخلاقهم ، والذين قال فيهم ابن تيمية: "فلا يغرنكم من قرأ القرآن ، إنما هو كلام نتكلم به ، ولكن انظروا من يعمل به"، كما هو حال رجال الدين الشرفاء الصادقين ، وأئمة المسلمين المعروفين بالنخوة والكرم والإباء والشهامة الإسلامية ومخافة الله ، الذين تبعدهم سلوكياتهم عن هذا "العهر التديني"  الذي نصطدم بجدار حقيقته في حياتنا اليومية ، والتي سأكتفي منها بهذا النزر القليل على سبيل المثال لوفرتها : حيث أنك لا تدخل أي مقهى أو أي متجر أو أي مصلحة عمومية أو أي عيادة طبيب ، إلا وتسمع القرآن الكريم ، ولا تركب الترام أو الحافلة أو التاكسي ، إلا تسمع صداح الهواتف بالآذان والتكبير أو بالأذكار والأناشيد الدينية ، ولا تلج مدرسة ، إبتدائية أو إعدادية، إلا وتجد أن مسابقات تجويد القرآن من أهم أنشطتها ، بدل المسابقات الثقافية والفنية والرياضية، وحتى الحضانات ورياض الأطفال لا تلقن للأطفال الصغار إلا الأحاديث النبوية بدل الأناشيد ، ولا ترمق أي سيارة فارهة كانت أو مترهلة ، إلا و قد كتب على نوافذها الخلفية عبارات : "لا تنس ذكر الله" أو "هذا من فضل ربي" وغيرها  كثير من الشعارات الدينية التي يراهن بعض أصحابها على تغطية بعضا من فسادهم وفسوقهم ، الحالة التي تستوجب منا العديد من الأسئلة والاستجوابات المهمة حول هذا الفساد التديني، والذي غابت معه ثمار التدين في الأزمنة المتأخرة ، وخرج ، أو خرج شطر كبير منه على الأقل ، عن معاملة الله التي هي الأصل ، إلى محاباة المجتمع والدولة والفقهاء والمذاهب والجماعات الدينية المختلفة ، الانحراف التديني الذي يكاد يجهل عموم الناس ممن لا يعلمون حقيقة ما هم عليه ، بأنه أسوأ من التقصير والعصيان المؤدي إلى الانقطاع عن الله  ، والذي هو وبال عليهم وعلى مجتماعتهم بما ينشره فيها من عداوة وعنف وإقتتال حتى بين أصحاب الدين الواحد والمذهب الواحد.
إن الغاية من هذا المقال ليس هو النقد لمجرد النقد ، كما يمكن أن يتبادر لبعض الأذهان ...، وإنما هو للتنبيه إلى وجود ظاهرة خطيرة منتشرة على نطاق واسع في المجتمعات العربية والإسلامية وحدها من غير أمم وشعوب العالم التي عبرت منذ قرون مسألة الفهم الديني ، وحسمت امرها بشأنه وتجاوزوته الى غير رجعة ولم تعد تشكّل عندها اشكالية ، وهو لتحفيز وعي الفرد بمخاطر التدين الظاهري ، الذي تعمل الحركات الإسلامية على تصيعد حدته بيننا في الآوانة الأخير ، في ظل صمت المجتمع المدني، وغفلت الصحافة، وتراجع الدولة، أو على اقل تقدير، "إسترخاؤها" في تطبيق القانون، وسكوت وزارة الأوقاف المعني الأول بالتصدي لهذا المسخ المشوه للدين ، وكأنهم سلبت منهم الإرادة ، أو أُلجمموا ،هم أيضا، بلجام من تلك الأفكار، أو فقدوا نباهتهم السياسية المعهودة.