بقلم الأستاذ علي
أبو رابعة
وقتٌ مديدٌ وأنا
أجلسُ نائماً فوق الكتاب ..مللتُ الكتب والدراسة ،حتى التلفاز ،والانترنت،والشوارع
بأرصفتها ،والطريق إلى الجامعة ،مللتُ كل شيء فى حياتي هذه ..أظن أنها حياة بائسة ،أحفظ
كل شىء يجوب من حولي ،لدرجة أنّ بإمكاني معرفة المستقبل ،نعم أستطيع دخول المستقبل
من الماضي .
فلو اتصلتُ بصديقي
الآن سيسخر مني ،ومن إنطوائيتي ،ولو خرجت إلى أبي الآن سيسألنى عن الدراسة وأحوالها
،وهل أحتاج نقوداً أم لا؟..ولو جعلتُ رأسي تطل كفوهة مسدس من غرفتى على صالة البيت
حيث أمي ،ستسألنى عن موعد الجامعة بالغد ،ذلك الموعد الذى ذكرته لها مرات كثيرة هذا
اليوم ..!
ولو حدثتُ نفسي
عن حالي وأحوالي ،ستقول لي متأففةً :
"حالك ..! على كرسي
المكتب تنام، وعلى السرير تستيقظ ، فلا تسألني عن حالك كي لا يتلبسك الموت ،فكن رحيماً
بذاتك ."
إنها الوحدة حقاً
ما تفعل بي كل ذلك ..! او الروتين الذى يقدم إلىّ مع كل شمسٍ شارقةٍ يوماً مغلفاً بالأتربة
..أشعر بأني عشتُ حياتي آلاف المرات .
قررتُ أن أقهر
الروتين بسفرية إلى مدينة المنصورة ،سأحمل
حقيبتي بالغد ،تاركاً خبراً لأبي بأنّي سأزور أصدقائي .
ركبتُ أول أتوبيس
ذاهباً إلى المنصورة ..جلست بجوارى فتاة ذات خمار أسود ،رميتُ عيني على ما تحمله وجدتُها
تحمل رواية الأبلة لكاتب لا أستطيع نطق اسمه ،ما أصابنى بسخنة فى أنحاء جسدي ،أنها
رأت عيني سارحة فى غلاف روايتها ،ظننتها ستظن السوء فى عيناي ..لكن هذا زادها فخراً
واعجاباً بذاتها لا اعرف السبب ..لا يهم !
نزلتُ من الاتوبيس
وعقلي يهوم في اسم الرواية ..قد جذبنى الاسم حقاً ..اتهجتُ سيراً صوب لوكندة أعرفها
..سيئة بعض الشيء ،لكنها مريحة جداً لكونها منظمة ومرتبة ‘فالشيء مهما كان بسيطاً فقيراً
لكنه نظيفاً مرتباً يعطي شكلاً جمالياً رائعاً ، استلقيتُ على السرير ناظراً الى السقف
،افكر فى كيفية قهر الروتين ..لكن لا فائدة ..هو هو ذات الاحساس ..لا يتغير بالمكان
او بالزمان ،فقد استمتع قليلاً مع ونس ما ،قد تتلبسي الفرحة لبرهات يمكنني حسابها ،لكن
بعدها أعود لإحساس التعاسة والبلادة ..بدأت أشعر أن لفظة السعادة مخترعها الانسان كي
يتفلسف ويتاجر بها !
أخذت فى النوم
حيث كل ما يصلنى من أصوات يدعو للنوم حتى شراذم النور الخافتة التى تصلنى من شرفة الغرفة
..أخذت عيني فى الإقفال شيئاً فشيئاً كأنّ ستار المسرح ينغلق شيئاً فشيئاً .
* *
كنتُ واقفاً أمام
زقاق اللوكندة ،كنتُ أنظرُ إلى موكبٍ عجيبٍ يمر من أمامي ،اربعة يحملون نعشاً متجهين
إلى الضريح بنهاية الشارع تقريباً،ولا يسير خلفهم من أحد ،والسؤال الذى داهمني لحظتها
مَنْ هذا الميت ..؟! ..الصراحةُ تُقالُ لقد غام بي الأفق حيث ظننتُ أنّه كان إنطوائياً
مثلي،فإجتماعيته مقتصرة على أبناءه فقط ، أو أربعةً فقط ..!
لكن غيرتُ وجهة
نظرى ،ورأيتُ أنّ ذلك جميلٌ حقاً ..حيث المعزين والسائرين فى موكب النعش لا يشغلهم
الحزنَ على فراق المحمول على الأكتاف ،بل تشغلهم تأدية الواجب ،فهم مجبرون على ذلك
بكل تأكيد
فإن مِتُ لا أريد
أن يسير فى موكبي مجبورٌ ،أريد من يسير يبغي التلويح إلىّ بالوداع ولو دمعاً ولو بنظرة
حبٍ ولو بقطرةٍ من الإشتياق إليّ ..!
استكملتُ السير
إلى حيثُ لا أعلم ..فالتسكع غريمي الأول ،كنتُ أحملُ فى يدي اليسرى كتباً لا أحفظ ما
بداخلها ولا أجيده ،فقط أحملها لأني أشعر بالعراء بدونها ..وفى يدي اليمني عقب سجارة
تلفظ أنفاسها .
- اتفضل ..ايه فيه حاجة عجباك !
كان هذا بائعاً
متجولاً يفترش على الأرض مجموعة من الساعات والأساور والمديليات كنتُ انظر اليهم بشغف
وحاجة ملّحة ،أريد أن أشترى كالعادة، لكنْ جيبي فقير..!
-شكراً يا ريس
..انت على راسي !
-عادى ولا يهمك .
استكملت السير
،فجأةً وجدتُ نفسي فى شارع السكة الجديدة حيث كل ما تريد شرائه متوفراً بكل تأكيد يا
سيدي !
جميع البائعين
يقفون على أبواب محلاتهم ،ويدعون كل من يرمي نظره عليهم للشراء بلغة معسولة وبإبتسامة
صينية مشمسة ..
اتفضل يا باشا
..اتفضل يا استاذ هنا كل حاجة ..يا كابتن هنا اسعار حلوة جدا وهادية .. يا صاحبي هنا
مش مهم تشترى بس اتفرج ..تعالي رايح فين بس ..اتفضل ..اتفضل ..إلخ إلخ
لقد كاد عقلي ان
ينفجر من الزهق والملل ،إن السوق لم يعد يجد مشترين لمنتوجاته ،بدأتُ أظن أنّ معظم
مواطني مدينة المنصورة تحولوا لبائعيين ،نظراً لزيادة البطالة ،فلم يعد هناك مشترين
غيري ..أم الناس لم يعد لديهم أموالاً للشراء ،ودخولهم تكفيهم لكفاء حد الكفاف مثلي..!
لا يهم ..!
فلكي أهرب من هؤلاء
الذين يتمنون أن يمدون يدهم فى جيبي ليسلبوا ما به حتى لو كان فارغاً ،غيرتُ الرصيف
،ثم جلستُ على كرسي خشبي تسوده حالة إسوداد على قهوةٍ فقرةٍ جداً ..!
-باشا ..واحد شاى
بعد إذنك !
-من عنيا يا استاذ
..عندك واحد شاى .
كان عامل المقهى
يعلو وجهه إمارات الخنق والحنق والهوان ..لكن عيناه لم تنزل من عليّ منذُ أن أرحت ظهرى
على هذا الكرسي الغير مريح
-شكرا يا باشا .
-تحت امرك يا استاذ
بعد ان قدم إلىّ
طلبيتي وقف ينظر بضع ثوان قليلة اعتقد أنه يريد قول شيئاً ما لا اعلم ما هو، لكنَّ
الحرج يمنعه ..حيث وجهه مخطوفاً شاحباً ،أخذتُ فى رشف الشاي ..وأترقب نظرات العامل
..زاد قلقي ..بسبب هيئته المخيفة ونظراته الحادة المنهالة عليّ .
اقترب من احدهم
كان يرتدي ثوباً جذّاباً ..مد الرجل يده فى جيبه فأعطاه نقدية فئة مائتين .
الآن فهمتُ إنه
فى حالة عوز ..لكن الحال من بعضه ..فأنا فى حاجة للعوز مثله ..!
- الحساب بعد اذنك ..!
- طلبت ايه يا استاذ .
-واحد شاى يا باشا .
-تلاتة جنيه ونص
-اتفضل يا باشا
كان الحوار مهرولاً
جداً ..وكنتُ فى قمة التوتر وأنا أعطيه الحساب .
قررتُ الذهاب بعيداً. .
رأيتُ فتاةً جميلةً
كانت تقف أمامي أراها فى قمة القلق أعتقد أنها تنتظر أحدهم ، لقد أراحت قلبي برؤيتها
،جعلت قلبي يدق ..وشعرتُ أن قلبى كان عاطلاً ..وفجأة دق جرس العمل لديه ..لكن العجيب
أنّي شعرتُ بأن هناك فوهة مدخنة داخل صدري ..إنه يضطرب ،بالرغم من تمتعه بالنظر إلى
الفتاة .
بداهتني بنظرة
جميلة ،لكن أحسست أنها نظرت من خلالي لا إليّ ..ونظرت فى ساعتها ثم أعطتني ظهرها ،وسارت
،حتى ذابت فى الزحام .
سرتُ وأنا أهوم
فى صورتها التى ارتسمت فى ذاكرتي ..
- ما تحاسب يا أخينا ..انت نايم ولا ايه
لوّحتُ له أنّي
أعتذرُ إليكَ واستأنفتُ السيرَ ..
جاء الليلُ عليّ
..ورَضِمَت قدمي من كثرة المشي والتجوال ،فقررتُ
الجلوس على الرصيف قليلاً مع همٍ أجثم عليّ كثيراً أنّي ضيعتُ عمري فى التسكع والإستسلام
للملل ..لماذا لا أعمل ؟! ..فوظيفتي الوحيدة هى المذاكرة ،إنّ كلّ ما بالطبيعة فى تحرك
وآلية عمل ..قد أصنع مجداً ..فإن لم يأتِ المجدُ إليّ ،فلماذا لا أسيرُ إليه ولو حبواً
؟! فإنَّ العاملينَ عن حبٍ لعملهم ،وتنظيماً لأوقاتهم ،هم الأكثرُ إحساساً بالسعادة
..ولا يجزعهم المستقبل ،أو يمس قلوبهم القلل ..فقط إعملْ .