بقلم الأستاذ حميد طاولوست
سأتوقف اليوم عند ظاهرة خطيرة ، تعكس مدى
الهبوط السياسي في الكثير من البلدان العربية ، وهشاشة المنظومة القيمية للعملية السياسية
بها، وتفضح غياب الروح الوطنية عنها ،و التي انتشرت في الآونة الأخيرة -وبالضبط بعد ما سمي بالربيع العربي - بطريقة مباشرة
و دون تدرج واكتسحت جميع مؤسساتها الرسمية ، وسرت بلا أعراض في مفاصلها وزواياها، كسريان
السم في الجسد ، فملأت علينا كل فضاءات حياتنا ، حتى لم يعد أبسط المواطنين ، لا إلى
ذكاء أو خبرة لإكتشافها بيسر وسهولة ، وذلك
لديوعها الفاضح والمفضوح في الساحة السياسية ودواليب الأحزاب ومركزياتها النقابية،
والمتمثلة في احتلال المناصب القيادية في تسيير البلاد ، من لدن أفواج مجهولي النسب
السياسي ، وجحافل النكرات السياسية المفتقدة للتعاطف والشعور بنداءات المظلومين والمقهورين
، الذين أنتجتهم ديمقراطية العشائر وطوائفها المذهبية والسياسية والعقائدية ، ورجال
الدين ومنظومة وديهياتهم ، ومبادئهم العقيدية والسياسية ، وأبدعت مجاميع الطامحين في
قيادة المجتمع والدولة - بلا خبرة أو ذربة ، ولا انتماء وطني أو شعور بالمسؤوليات ،
وبدون شجرة نسب سياسي- في تطوير أساليب تطبيق أجنداتهم لتشويه الديمقراطية، واغتيال
البناء العدالة الاجتماعية وتجريدهما من قيمهما ومبادئهما الإنسانية ، وتبرير منزلقاتهم
في التنكّر للثوابت ، وسلخ المواطن من هويته ومشروعيته ، بإعتمادهم الكلي على الدين والمذهبية والعصبيات
القبلية ، للوصول إلى احتلال كراسي السياسة والامساك بمقاليد الأمور في الدولة بكل
ملحقاتها من برلمان وحكومة ، للتحكم في كل كبيرة وصغيرة والاستحواذ على ثروات الشعب
المطمورة في مغارة الدولة ، وتحويلها إلى حسابات خاصة ، من خلال مشاريع وهمية وصفقات
مريبة ، تفترس بها مقدرات الشعب المقهور ، وينهش لحمه ، وتطحن عظامه ، بعد أن
"يضبعه" رجال السلطة خريجي الأحزاب الكارتونية مجهولة الجذور هي الأخرى،
بأحدث أساليب "التضبيع والتكليخ" والأكثر فعالية وتأثيراً من بول الضبع ،
والتي منها على سبيل المثال لا الحصر:
الخطابات العاطفية الجياشة الزاخرة بالبكائيات
والمظلومية المدغدغة للمشاعر الدينية ، التي لا تؤسس إلا للخرافة واستبعاد العقل والمنطق
، دون أن تنتج أية إضافة أو معرفة غير إزهاق الحق و نصر الباطل من أجل مصالح شخصية
و أهواء ذاتية تؤدي إلى نشر الظلم واستغلال الشعوب والأفراد وامتصاص دمائها والتحكم
بهم واستحمارها.
تبرئة مجهولي النسب السياسي والإعلامي ،
لأنفسهم وأتباعهم وأزلامهم وحلفائهم وكل من تربطهم بهم روابط طائفية أو قرابات عشائرية
، من تهم الإنتهازية والتسلط والاستبداد القبلي والعشائري و السعي وراء السلطة وتحقيق
المصالح الشخصية ، عوض إرضاء الله أو العمل الصالح المقهورين .
اظهار الطارئين على العمل السياسي والمتشبطين
به ، الذين لا وطنية لهم ، على أنهم رموز وطنية ، رغم أنهم لم يقدموا لشعبهم سوى الشعارات
الجوفاء والوعود الكاذبة.
وفي حال ما شعر جيش مجهول الهوية ، باستعصاء
تضبيع الناس واستحمارهم بالعاطفة ، أو أحسوا بفشل أساليبهم الجهنمية في التضبيع والتكليخ
والاستحمار ، فإنهم يلجأوا للعنف والتغالب وإستخدام أقصى ما يملكون من القوة بمختلف
أشكالها و تنوع مسمياتها ، التي تصل عندهم إلى تصفية كل من يقف في وجه مصالحهم ، في
الوقت الذي أضحت الدولة في أمس الحاجة إلى تنظيفها والأحزاب السياسية من الفاسدين الذين
يعيشون فيها عصر المشاعية البدائية ، وتخليصها من العقول المعطلة المقيدة بالمقدس والوهم
والخرافة والجريمة المبررة والكذب الممنهج ، والظلم والفجور المغلفين بالدين، وتغييرها
بدماء وعقول جديدة وعقليات تساير متغيرات العصر ، ومتطلباته على الصعيدين الوطني والدولي
، خاصة وأنه لا تنقص بلادنا الولود ، لا الرجالات الوطنية المخلصة النزيهة ، ولا الأطر
المقتدرة المستقيمة ، ولا ذوي الكفاءات المتميزة والمقومات الذهنية العالية ، ولنا
العظة والعبرة في الخبرات المهاجرة ، التي لا تقصر ولا تبخل بجهودها وقدراتها وخبراتها
لإثبات الذات وتحقيق الذوات ، والتي يتم الاعتماد عليها كليا في الكثير من بلاد المهجر
- كنجاة بلقاسم على سبيل المثال لا الحصر.
فلماذا لا يُطبق ذلك في وطننا المعطاء،
وبين أهلنا الكرام، وتُفتح الفرص واسعة ومتاحة بالعدل القائم على قيم المساواة التامة
، لكل الطاقات القادرة على العطاء المبدع ، التي يحقق الانتصارات والإنجازات التي تبني
الأوطان قوية ليستظل تحت رايتها جميع أعضاء المجتمع ، وتنعم فيها كل مكوناته بحياة
رغدة ، ويشعرون داخلها وخارجه بالانتماء إليها،
بدل الإستمرار في التدمير الممنهج للبلاد وتضييع ثرواتها وسرقة أموالها العام
وإغراقها بالديون في أمور هامشية، كما هو الأمر الذي أصبح معتادا في مغربنا العزيز
، ولدى الشخصيات السيكوباتية ، التي ارغم أنها تبدو طبيعية إلا أنها تشكل خطورة شديدة
على مجتمعاته ، لأنها لا تتمتع بأي حس وطني وليس لديها أي وازع من ضمير
.
إن شعبا كريما كالمغرب، قدم العديد من التضحيات
و النضالات، لخليق بأن يحظى بمسؤولين حكوميين
ورؤساء أحزاب ومؤسسات تسيير شونه العامة ، في مستوى تضحياته ونضالاته، معروفون بمواقفهم
السياسية الثابتة، حزبيون كانوا بانتماءاتهم المتينة ، أو مستقلين خاضوا معارك حقوقية
وكفاحات نضالية من أجل الحريات العامة ومكافحة الفساد، وتحقيق دولة الحق والقانون،
أقوياء بوطنيتهم، يتحملون مواقفهم بكل شجاعة وجرأة، يجتهدون لحل معضلات البلاد و التخفيف
من معاناة العباد، حسب أجندة واضحة المعالم، وبرامج محسوبة المرامي تؤسس لتجربة سياسية
حقيقية، تجلب الرخاء والنماء ، وتكرس المكتسبات ، بالنضال الصادق المستميت داخل المجالس
المنتخبة وخارجها، بكل الطرق السلمية والمشروعة .
لقد حان الوقت للتوقف عند كثل هذه الظواهر
المسيئة للوطن والمواطنين ، والاستفاقة من حالة "التضبع" والاستحمار التي
نغرق في مخدرها ، وننبد مبدأ المثل الدارج "حط راسك بين الروس وقول يا قطاع الروس
" الذي نؤمن به ونطبقه بحذافره ، حتى نحفاظ على ما تبقى من وطننا ، وإنقاذ ما
يمكن إنقاذه قبل أن تأتينا "تضبيعة" أقوى مما نحن فيه ، لا تنفع بعدها استفاقة
أو ندم.