بقلم الأستاذحميد طولست
غريبة هي دنيا الأحفاد ، الرائعة التي تسرقنا
نحن الأجداد من أنفسنا ، و تدفع بنا للبدل والعطاء الدائم غير المشروط لإسعاد أحفادنا
، بغض النظر عن الوضع الذي نكون عليه وفيه، وحتى وإن استنفد منا كل ما نملك من طاقة
، والأغرب من ذلك ، مشاعر الجدودية ، تلك الغريزة المدهشة والقوة الخارقة القادرة على
تعويضنا ، ما قد يصيب أجسامنا من ضعف ووهن ، ويعتري حياتنا من شعور بالوحدة ، ويحقق
لنا الرضا والإشباع النفسي ، ويمتن صلاتنا بأحفادنا مند مراحل أعمارهم الأولى ، ويحسن
مهارات التعلم والنضوج لديهم ، فيسعدوا بلا حدود ، بانغماسنا في دنياهم ، ومشاركتهم
حياتهم المليئة باللهو واللعب والمرح البريء .
إنها مشاعر لا توصف تأثيراتها بكل كلمات
لغات الدنيا ، تلك المشاعر التي تستطيع أن تجعلني أستيقظ منشرحا من نومي في كل لحظة
يزورني فيها حفيدي ، وأقفز من فراشي فرحا أنفض غبار التعب عني ، ولو كان بي مرض أو
حزن أو ضجر ، وأتخلى على كل التزاماتي وأترك جل مسؤولياتي ، لأسعى جاهدا لتلبية جميع
طلبات حفدي وسيم المفاجئة والملحة التي تتصدر لائحة أوامره التي لا تنتهي ، والتي كثيرا
ما تخطفتني ببطيء لذيذ من ركام السنين وازدحام الكهولة وتكاليف الشيخوخة ، وانتزعتني
برقة وحنو من مصادرة الذات ومراقبة اللذات ، واستدرجتني في استسلام وجداني ، إلى عوالمه
الطفولية ، وإلى لهوه البريء ، وفرحه الصادق
، الذي يُولّد من ابسط الأشياء المتعة الحقيقية غَيْر مصطنعة ، التي تنزع بي ، رغم
ما أخذه مني تقدم السن ونقص العمر والتواء دروبه من طاقة وجهد ، إلى الانخراط بطواعية لذيذة ، في محطات لهوه الفطري وشريعته المتحكمة
الجائرة التي يعاقبني بها ، إن أنا خرجت عن قوانين لعبته ، بترقب ساعة النهاية ، أو
تجاوزتها بالهروب من الملعب لاهثا وراء راحة الجسد المنهك ، فلا يتوانى على إرغامي
، بدمع وبكاء يعتصر القلب والوجدان ، على النهوض لأركض وراء كل كرة يركلها بقوة وعزم
، والتي يعيد ركلها مرات و مرات في رقص وطرب
، وقد تكون الركلة صائبة فيطير فرحا، ويقيم احتفالا بالعناق ، وأنا منبطح على الأرض
،أتخبط بين التعب الذي أبطأ خطواتي وشل عضلاتي، وبين عزيمة المثابرة في إرضاء تعصب
حفيدي وعناده وتصلب رأيه ، ومحاولة إثبات ذاته وكيانه ، التي
تذكرني بأيام طفولتي ، أسعد مراحل حياتي وأجمل
ذكرياتها التي لا يستطيع أي ظرف محو ما استقر منها في الذاكرة ، وتَرسخ صامدا منتصبا
في الذهن ، والذي تغشاني لذته الوهمية بما حمل في طياته من قصص البراءة ، والحرية ،
والانطلاق ، كلما أوغلت في العمر ، واخذ الزمان من عنفوان الصغر وعزته وتجبره ، وأحن
أكثر إلى متعها المتنوعة الأوصـاف ، المـتـدرجة الـحلاوة ، والتي والله ، رغم ما أجنيه
في ملعب حفيدي من لسعادة خالية من تقلبات الزمن
، وصراع الأهواء ، وتعقيدات ألغاز الكبار ،
فإني لأتحسر وأتألم كثيرا ، وأندم شديد الندم - وإن كان بعد فوات الأوان - على
انشغالي عن أبنائي الذين لم أنصت لمشاكلهم وهم صغار، بدعوى متاعب و زحمة العمل ،والنضال
السياسي والنقابي ، وأرجو منهم العفو والغفران ، حتى أخرج من الحياة ، عندما يحل الأجل
، غير نادم على شيء ، وأغادر الدنيا مبتسما.