بقلم د . جمال فزة
تمهيد
يحتاج اليساريون المغاربة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى إعادة تعريف اليسار وتحديد المهام التاريخية الملقاة على عاتقه. والأمر إذا كان يدعو فعلا إلى مساءلة الأسس والأهداف العامة لليسار، فلأن مؤشرات التحول التي يشهدها الواقع المغربي في مختلف أبعاده (الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية) تتجاوز في دلالاتها وامتداداتها الأفق الذي رسمته لها بعض القوى اليمينية والمحافظة؛ حيث حصرت هذه القوى مضمون الحراك الشعبي الذي شهده المغرب في العقدين الأخيرين في دائرة ضيقة جدا، تتعلق "بهامش الارتياب الذي يسمح به تحول واثق من ذاته لنظام سياسي ينتقل من شكله المغلق إلى شكله المفتوح" . وهذا يعني أن الطرح اليميني المحافظ يتفادى وضع الحراك الشعبي الذي شهده المغرب في العقدين الأخيرين على محور الصراع: سلطة/مجتمع.
واليسار، باعتباره جزء لا يتجزأ من قوى التغيير، يتعين عليه أن يتوقف بتأن عند تشخيص المرحلة التاريخية التي يمر بها المجتمع، وفهمها من خلال ربط التشخيص بحدس تاريخي عام يستند إلى ما يطلق عليه هيغل "روح الزمن" die zeitgeist؛ أي المعالم الفكرية الكبرى التي تشكل العقلانية العامة للحقبة أو المرحلة التاريخية التي تمر منها الإنسانية على وجه العموم، وترتبط هذه العقلانية العامة بالعولمة باعتبارها مرحلة متقدمة من مراحل تطور الرأسمالية.
لكن قبل تعريف العولمة والخوض في الأسس التكنولوجية والاقتصادية التي تقوم عليها، تجدر الإشارة إلى أنه لم يكد يمر عقدان من الزمن، بعد تفكك المنظومة الاشتراكية وظهور أول صفحة ويب (1990) حتى تبددت الأحلام بشأن نهاية التاريخ، وكفت مقولة "العولمة السعيدة" على أسر العقول وزرع بذور الثقة في المستقبل. وفجأة وجد العالم نفسه يعيش تحت صدمة النتائج المخالفة للوعود والمخيبة للآمال، والتي تخلق اليأس وتعزز الشك والتوجس من المستقبل العام للإنسانية؛ فقد تفاقمت حدة التفاوتات الاجتماعية وتوسعت الهوة بين الطبقات المشكلة للمجتمع وأصبح تطور الرأسمالية، في زمن النيوليبرالية، رهين بتدمير البيئة وتفقير الشعوب والزج بعدد كبير من الشباب في أتون البطالة وخلق الهشاشة الاجتماعية وتوسيع الهامشية. وكلها قضايا تفرض على اليسار أن يعيد النظر في أطره التصورية العامة، لاسيما وأن غالبيتها لازالت تمتح من معين الاشتراكية كما عرفها العالم في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين؛ حيث كان تطور الرأسمالية الصناعية يسير جنبا إلى جنب مع تطور الطبقة العمالية، وكان تحقيق معدلات عالية من النمو الاقتصادي يتطلب إدماج نسبة كبيرة ومهمة من اليد العاملة داخل دائرة الإنتاج. ولعل هذا ما يجعل هذه الأطر التصورية عاجزة عن الإجابة عن تساؤلات من قبيل :
لماذا، بينما تتعزز التفاوتات الاجتماعية وتتسع الهوة بين الطبقات المشكلة للمجتمع في زمن العولمة، لا تتخذ التعبيرات الاجتماعية بالضرورة مضمونا طبقيا؟
كيف نفسر الحضور القوي للطابع الديني في الصراع الاجتماعي والسياسي، وتنامي المطالب الخاصة بالهويات الأساسية داخل كل مجتمع؟
لماذا تميل التناقضات الطبقية والاجتماعية، أكثر فأكثر، إلى التعبير عن ذاتها في حركات اجتماعية سلمية قد تصل إلى العصيان المدني، لكن دون أن ترهن مستقبلها بنشاط نخبة منظمة تهيء للاستلاء على السلطة باستعمال العنف؟
سوف نحاول تقديم إجابة عن هذه الأسئلة اعتمادا على تصميم يتمفصل حول أربعة محاور كالآتي:
يحتاج اليساريون المغاربة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى إعادة تعريف اليسار وتحديد المهام التاريخية الملقاة على عاتقه. والأمر إذا كان يدعو فعلا إلى مساءلة الأسس والأهداف العامة لليسار، فلأن مؤشرات التحول التي يشهدها الواقع المغربي في مختلف أبعاده (الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية) تتجاوز في دلالاتها وامتداداتها الأفق الذي رسمته لها بعض القوى اليمينية والمحافظة؛ حيث حصرت هذه القوى مضمون الحراك الشعبي الذي شهده المغرب في العقدين الأخيرين في دائرة ضيقة جدا، تتعلق "بهامش الارتياب الذي يسمح به تحول واثق من ذاته لنظام سياسي ينتقل من شكله المغلق إلى شكله المفتوح" . وهذا يعني أن الطرح اليميني المحافظ يتفادى وضع الحراك الشعبي الذي شهده المغرب في العقدين الأخيرين على محور الصراع: سلطة/مجتمع.
واليسار، باعتباره جزء لا يتجزأ من قوى التغيير، يتعين عليه أن يتوقف بتأن عند تشخيص المرحلة التاريخية التي يمر بها المجتمع، وفهمها من خلال ربط التشخيص بحدس تاريخي عام يستند إلى ما يطلق عليه هيغل "روح الزمن" die zeitgeist؛ أي المعالم الفكرية الكبرى التي تشكل العقلانية العامة للحقبة أو المرحلة التاريخية التي تمر منها الإنسانية على وجه العموم، وترتبط هذه العقلانية العامة بالعولمة باعتبارها مرحلة متقدمة من مراحل تطور الرأسمالية.
لكن قبل تعريف العولمة والخوض في الأسس التكنولوجية والاقتصادية التي تقوم عليها، تجدر الإشارة إلى أنه لم يكد يمر عقدان من الزمن، بعد تفكك المنظومة الاشتراكية وظهور أول صفحة ويب (1990) حتى تبددت الأحلام بشأن نهاية التاريخ، وكفت مقولة "العولمة السعيدة" على أسر العقول وزرع بذور الثقة في المستقبل. وفجأة وجد العالم نفسه يعيش تحت صدمة النتائج المخالفة للوعود والمخيبة للآمال، والتي تخلق اليأس وتعزز الشك والتوجس من المستقبل العام للإنسانية؛ فقد تفاقمت حدة التفاوتات الاجتماعية وتوسعت الهوة بين الطبقات المشكلة للمجتمع وأصبح تطور الرأسمالية، في زمن النيوليبرالية، رهين بتدمير البيئة وتفقير الشعوب والزج بعدد كبير من الشباب في أتون البطالة وخلق الهشاشة الاجتماعية وتوسيع الهامشية. وكلها قضايا تفرض على اليسار أن يعيد النظر في أطره التصورية العامة، لاسيما وأن غالبيتها لازالت تمتح من معين الاشتراكية كما عرفها العالم في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين؛ حيث كان تطور الرأسمالية الصناعية يسير جنبا إلى جنب مع تطور الطبقة العمالية، وكان تحقيق معدلات عالية من النمو الاقتصادي يتطلب إدماج نسبة كبيرة ومهمة من اليد العاملة داخل دائرة الإنتاج. ولعل هذا ما يجعل هذه الأطر التصورية عاجزة عن الإجابة عن تساؤلات من قبيل :
لماذا، بينما تتعزز التفاوتات الاجتماعية وتتسع الهوة بين الطبقات المشكلة للمجتمع في زمن العولمة، لا تتخذ التعبيرات الاجتماعية بالضرورة مضمونا طبقيا؟
كيف نفسر الحضور القوي للطابع الديني في الصراع الاجتماعي والسياسي، وتنامي المطالب الخاصة بالهويات الأساسية داخل كل مجتمع؟
لماذا تميل التناقضات الطبقية والاجتماعية، أكثر فأكثر، إلى التعبير عن ذاتها في حركات اجتماعية سلمية قد تصل إلى العصيان المدني، لكن دون أن ترهن مستقبلها بنشاط نخبة منظمة تهيء للاستلاء على السلطة باستعمال العنف؟
سوف نحاول تقديم إجابة عن هذه الأسئلة اعتمادا على تصميم يتمفصل حول أربعة محاور كالآتي:
في الأساس المادي للحركات الاجتماعية الجديدة
اتساع الهامشية وإعادة ربط الصلة بالدين
أفول المنهجية الوطنية أو في الحاجة إلى يسار كوسموبوليتي (cosmopolitique)
في الحاجة إلى حركة شعبية موسعة ومتمفصلة (articulée)
اتساع الهامشية وإعادة ربط الصلة بالدين
أفول المنهجية الوطنية أو في الحاجة إلى يسار كوسموبوليتي (cosmopolitique)
في الحاجة إلى حركة شعبية موسعة ومتمفصلة (articulée)
في الأساس المادي للحركات الاجتماعية الجديدة
يختلف الماركسيون في تصورهم للثورة الاجتماعية لكنهم يجمعون على أن أساسها الفلسفي يوجد في قانون من قوانين الجدل؛ وهو تحول التغيرات الكمية إلى تغيرات كيفية، أو ما يطلق عليه البيولوجيون قانون الطفرات. وفي مستوى التصور المادي للتاريخ، وهو بعد من أبعاد المادية التاريخية، يعلل الماركسيون تبنيهم للعنف الثوري باحتدام التناقض بين القوى المنتجة وعلاقات الانتاج؛ على اعتبار أن زمن تطور القوى المنتجة يسير بسرعة، بينما يسير زمن تطور علاقات الانتاج ببطء شديد، أو قل إن الزمنين يتدفقان في منحيين متقابلين.
ولما كانت علاقات الانتاج هي التي تشكل البنية الاقتصادية التي تنهض عليها النظم السياسية والإيديولوجية والثقافية للمجتمعات، فإن هذه النظم، التي تتخذ من الدولة شكلها الأرقى، تسعى جاهدة إلى مقاومة الشروط المادية للتغيير، المتمثلة في التجديدات التكنولوجية وتقسيم العمل. إن هذا التقابل بين المجتمع باعتباره شكلا من أشكال الاستعمال الاجتماعي للتكنولوجيا، والدولة باعتبارها حارسة وحامية لعلاقات الانتاج عن طريق حيازتها لأدوات الإكراه والتربية، هو ما يفسر تبني الماركسيين للثورة العنيفة والمنظمة كأساس للتغيير؛ إذ يجب مواجهة إرادة تصمم على تعطيل الحركة الموضوعية للتاريخ، مستعملة ما يوجد في حوزتها من أدوات الإكراه والعنف، بإرادة تعمل على تنظيم الطبقة العمالية والارتقاء بها من مجرد طبقة بذاتها (classe en soi) إلى طبقة لذاتها (classe pour soi)، تعي مهمتها التاريخية وتكون مستعدة ومؤهلة للاستلاء على جهاز الدولة.
إذا كان لهذا النموذج التحليلي ما يبرره في المجتمع الصناعي، فإن قدرته الكشفية وقيمته التفسيرية تراجعتا بشكل ملحوظ في المجتمع المعلوماتي. والفرق يكمن في عجز الدولة، في زمن الثورة المعلوماتية، عن احتكار وسائل التواصل والتبرير الإيديولوجي؛ ومن ثمة عجزها عن كبح الطبيعة الثورية لقوى الانتاج. إن الثورة المعلوماتية تغير في آن واحد القوى المنتجة وعلاقات الانتاج وتوحد زمني تطورهما؛ وذلك لأن الثورة التكنولوجية، في هذه الحال، هي نفسها الثورة في العلاقات الاجتماعية، وهي تؤثر مباشرة في العقلانية العامة للمجتمع وضمنها مشروعية السلطة، غير أن هذا لا يعني، بالمقابل، أن الآثار الاجتماعية والثقافية ترتبط بالتجديدات التكنولوجية في حد ذاتها، بل بالأشكال الاجتماعية لاستعمال المعلومة. فإذا كان للثورة التكنولوجية، في مجتمع المعلومة، دور مستقل في تحويل الاقتصاد والمجتمع- وهذا ما يفسر الوتيرة السريعة التي تحققت بها الثورة المعلوماتية قياسا إلى الثورات التكنولوجية التي سبقتها، وآخرها الثورة الصناعية- فإن تأثير هذه الثورة على المجتمع يتم عن طريق استعمال المجتمع للتجديدات التكنولوجية. ولعل هذا ما يفسر تباين المجتمعات في الولوج إلى المجتمع المعلوماتي، وتباين الأدوار التي تضطلع بها الدولة في هذا المجال.
لم تعد الدولة تحتكر المشروعية الإيديولوجية، وأصبحت مراكز إنتاج المعنى داخل المجتمع متعددة ومتنوعة، وأضحى مركز الثقل في العلاقة الجدلية بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج يميل باتجاه القوى المنتجة، ويرجح دورها في تشكيل العلاقات الاجتماعية؛ حيث أصبحت وسائل الإعلام والتنشئة الاجتماعية تتخذ طابعا فرديا أكثر فأكثر، بعدما كانت إلى حدود قريبة وسائل اتصال جماهيرية تعمل تحت رقابة الدولة. لكن، هذا لا يعني أن الدولة لم تعد لديها القدرة والوسيلة على تشكيل الرأي العام داخل المجتمع، بل لم تعد الفاعل الوحيد المؤثر في هذا المجال، وحتى الأحزاب والتنظيمات التقليدية باتت تبدي عجزا كبيرا عن متابعة التحول الذي يشهده الوعي الجمعي متأثرا بالاستقلالية المتنامية لوسائل الإعلام والاتصال. والنتيجة أن صار الناس يمتلكون في بيوتهم وسائل وأدوات تنظيمهم الذاتية التي تيسر لهم إمكانية التنسيق فيما بينهم، والنزول إلى الشوارع محتلين الفضاءات العمومية ومحولين إياها إلى ميادين للاحتجاجات والمناقشات الجماعية للقضايا العامة.
في هذا الإطار تشكلت الحركات الاجتماعية الجديدة، وهي بطبيعتها حركات احتجاجية سلمية تخلق إحراجا مباشرا للدولة، ولا تحتاج إلى أي حزب طليعي يقودها؛ نظرا لكون الأعضاء المشاركين فيها قد تشبعوا بروح الديموقراطية وحقوق الإنسان وأساسها، على الإطلاق، "الحق في حياة سعيدة ومستدامة". وتجدر الإشارة إلى أن الثورة المعلوماتية لم توفر للناس وسائل التواصل والتنسيق فحسب، بل حررتهم - وهذا هو الأهم - من نموذج الدولة المركزية؛ حامية الثروة والهوية الوطنية من عبث الدخلاء والمؤامرات الخارجية، ومن "قصور" و"عدم رشد" الفاعلين المحليين. ولا غرابة في أن ينفجر الشارع العربي والمنطقة المغاربية بعد فضائح ويكليكس مباشرة.
وإذا كان كارل ماركس يقترح تعريف المجتمعات انطلاقا من تناقض أساسي وتاريخي تدور حوله باقي التناقضات مشكلة طبيعة المجتمع خلال حقبة زمنية معينة، فإن مانويل كاستلز يسير على نفس الخطى عندما يقترح تعريف المجتمع المعلوماتي، أي المجتمع الذي تنتجه الثورة المعلوماتية في تضافرها مع رهانات العولمة الاقتصادية، انطلاقا من تناقض أساسي؛ مفاده أن صدعا داخل المجتمع سوف يزيد عمقه ويتسع مداه في زمن العولمة بين الوظيفة والمعنى، فماذا يقصد كاستلز بهذه العبارة؟
يستعمل مانويل كاستلز للتعبير عن نفس التناقض عبارة "الشبكة والذات"؛ ويقصد أنه "في عالم يشهد تدفقا كبيرا للثروة والسلطة والصورة، يميل الأفراد، بالمقابل، إلى البحث عن هوية جماعية أو فردية يعتبرونها المصدر الأول للمعنى الاجتماعي. وإذا لم يكن في هذا الأمر جديد يذكر؛ حيث شكلت الهوية منذ زمن بعيد، لاسيما الدينية والإثنية منها، مصدرا للمعنى والدلالة الاجتماعيين، فإنها، اليوم، تصير المصدر الأساسي أو، بالأحرى، المصدر الوحيد لهذا المعنى؛ خصوصا وأن مجتمعاتنا تعيش مرحلة تاريخية تتميز بتفكك عام للتنظيمات الاجتماعية، وفقدان المؤسسات للمشروعية، وذبول الحركات الاجتماعية الكبرى، وزوال تعبيرات ثقافية مهمة".
وبعبارة بليغة ومقتضبة ، يعبر مانويل كاستلز عن هذا التناقض كما يلي: "لقد أصبحنا نؤسس معنى وجودنا، أكثر فأكثر، حول ما نحن إياه، أو نعتقد أننا إياه، وليس حول ما نفعله". وهذا يعني انفصال المعنى عن الوظيفة؛ فبقدر ما تتوحد الشبكات العالمية لتبادل الخيرات المادية والتقنية بقدر ما يميل الأفراد، وعلى نحو يثير الاستغراب، إلى البحث عن هوية أساسية متجذرة في التاريخ. وتجد هذه المفارقة أصلها في طبيعة المجتمع المعلوماتي الذي يعتبر، برأي ألان تورين، المجتمع الأول في التاريخ الإنساني الكوني حيث لم تعد التكنولوجيا تفعل فعلها في المجتمع تحت وصاية الثقافة والتصورات التي يروجها المجتمع حول السلطة. الأمر يتعلق، إذن، بانتصار ساحق للعقل الأداتي واستقلال منطق التطور التكنولوجي عن باقي ضروب المنطق التي يروج لها المجتمع. لكن، وفي مقابل هذا الانتشار الكاسح للعقل الأداتي داخل حقل المعاملات المادية بين بلدان العالم، ينهض المجتمع للمقاومة معتمدا على رصيده التاريخي ومقومات معقوليته، فيبرز في ساحة المواجهة فاعلون جدد: حركات اجتماعية تتشكل حول مهام الدفاع عن الهويات والبيئة وإعادة تعريف دور المرأة داخل المجتمع، و"تشهد على تحول تاريخي ينتقل بموجبه التناقض المركزي للمجتمعات الرأسمالية من عالم الإنتاج إلى عالم الاستهلاك والسكن والحياة الحضرية".
يفسر هذا التناقض المحوري طبيعة الحركات الاجتماعية الجديدة التي يزيد تأثيرها في الحياة السياسية والاجتماعية يوما بعد يوم، والتي أصبحت تلهم منظري الديمقراطية بشكل من الأشكال وتقودهم إلى إعادة تعريف الديمقراطية على خلفية مفاهيم من قبيل الإنصاف والفضاء العمومي والمعقولية وحقوق الأقليات وحقوق البيئة إلخ. وتجدر الإشارة إلى أن الشباب هم الفئة الاجتماعية الأكثر تضررا من هذا التحول التاريخي الذي يشهده الشرط المادي لوجودنا الاجتماعي، ومنه طبيعة حياتنا الحضرية وثقافتنا التي تستند على تمثل جديد للزمان والمكان؛ وذلك بالنظر إلى أهمية النسبة التي تمثلها فئة الشباب من الساكنة النشيطة داخل المجتمع، وكذا ارتباط الشباب مباشرة بعمليات التنشئة الاجتماعية، أو قل العمليات التي يتحقق من خلالها الاجتماع البشري وتتعزز بفضلها ميكانيزمات التماسك الاجتماعي (la socialisation). ولعل هذا ما يفسر الإسهام القوي والكبير للشباب في الحركات الاجتماعية الجديدة.
يختلف الماركسيون في تصورهم للثورة الاجتماعية لكنهم يجمعون على أن أساسها الفلسفي يوجد في قانون من قوانين الجدل؛ وهو تحول التغيرات الكمية إلى تغيرات كيفية، أو ما يطلق عليه البيولوجيون قانون الطفرات. وفي مستوى التصور المادي للتاريخ، وهو بعد من أبعاد المادية التاريخية، يعلل الماركسيون تبنيهم للعنف الثوري باحتدام التناقض بين القوى المنتجة وعلاقات الانتاج؛ على اعتبار أن زمن تطور القوى المنتجة يسير بسرعة، بينما يسير زمن تطور علاقات الانتاج ببطء شديد، أو قل إن الزمنين يتدفقان في منحيين متقابلين.
ولما كانت علاقات الانتاج هي التي تشكل البنية الاقتصادية التي تنهض عليها النظم السياسية والإيديولوجية والثقافية للمجتمعات، فإن هذه النظم، التي تتخذ من الدولة شكلها الأرقى، تسعى جاهدة إلى مقاومة الشروط المادية للتغيير، المتمثلة في التجديدات التكنولوجية وتقسيم العمل. إن هذا التقابل بين المجتمع باعتباره شكلا من أشكال الاستعمال الاجتماعي للتكنولوجيا، والدولة باعتبارها حارسة وحامية لعلاقات الانتاج عن طريق حيازتها لأدوات الإكراه والتربية، هو ما يفسر تبني الماركسيين للثورة العنيفة والمنظمة كأساس للتغيير؛ إذ يجب مواجهة إرادة تصمم على تعطيل الحركة الموضوعية للتاريخ، مستعملة ما يوجد في حوزتها من أدوات الإكراه والعنف، بإرادة تعمل على تنظيم الطبقة العمالية والارتقاء بها من مجرد طبقة بذاتها (classe en soi) إلى طبقة لذاتها (classe pour soi)، تعي مهمتها التاريخية وتكون مستعدة ومؤهلة للاستلاء على جهاز الدولة.
إذا كان لهذا النموذج التحليلي ما يبرره في المجتمع الصناعي، فإن قدرته الكشفية وقيمته التفسيرية تراجعتا بشكل ملحوظ في المجتمع المعلوماتي. والفرق يكمن في عجز الدولة، في زمن الثورة المعلوماتية، عن احتكار وسائل التواصل والتبرير الإيديولوجي؛ ومن ثمة عجزها عن كبح الطبيعة الثورية لقوى الانتاج. إن الثورة المعلوماتية تغير في آن واحد القوى المنتجة وعلاقات الانتاج وتوحد زمني تطورهما؛ وذلك لأن الثورة التكنولوجية، في هذه الحال، هي نفسها الثورة في العلاقات الاجتماعية، وهي تؤثر مباشرة في العقلانية العامة للمجتمع وضمنها مشروعية السلطة، غير أن هذا لا يعني، بالمقابل، أن الآثار الاجتماعية والثقافية ترتبط بالتجديدات التكنولوجية في حد ذاتها، بل بالأشكال الاجتماعية لاستعمال المعلومة. فإذا كان للثورة التكنولوجية، في مجتمع المعلومة، دور مستقل في تحويل الاقتصاد والمجتمع- وهذا ما يفسر الوتيرة السريعة التي تحققت بها الثورة المعلوماتية قياسا إلى الثورات التكنولوجية التي سبقتها، وآخرها الثورة الصناعية- فإن تأثير هذه الثورة على المجتمع يتم عن طريق استعمال المجتمع للتجديدات التكنولوجية. ولعل هذا ما يفسر تباين المجتمعات في الولوج إلى المجتمع المعلوماتي، وتباين الأدوار التي تضطلع بها الدولة في هذا المجال.
لم تعد الدولة تحتكر المشروعية الإيديولوجية، وأصبحت مراكز إنتاج المعنى داخل المجتمع متعددة ومتنوعة، وأضحى مركز الثقل في العلاقة الجدلية بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج يميل باتجاه القوى المنتجة، ويرجح دورها في تشكيل العلاقات الاجتماعية؛ حيث أصبحت وسائل الإعلام والتنشئة الاجتماعية تتخذ طابعا فرديا أكثر فأكثر، بعدما كانت إلى حدود قريبة وسائل اتصال جماهيرية تعمل تحت رقابة الدولة. لكن، هذا لا يعني أن الدولة لم تعد لديها القدرة والوسيلة على تشكيل الرأي العام داخل المجتمع، بل لم تعد الفاعل الوحيد المؤثر في هذا المجال، وحتى الأحزاب والتنظيمات التقليدية باتت تبدي عجزا كبيرا عن متابعة التحول الذي يشهده الوعي الجمعي متأثرا بالاستقلالية المتنامية لوسائل الإعلام والاتصال. والنتيجة أن صار الناس يمتلكون في بيوتهم وسائل وأدوات تنظيمهم الذاتية التي تيسر لهم إمكانية التنسيق فيما بينهم، والنزول إلى الشوارع محتلين الفضاءات العمومية ومحولين إياها إلى ميادين للاحتجاجات والمناقشات الجماعية للقضايا العامة.
في هذا الإطار تشكلت الحركات الاجتماعية الجديدة، وهي بطبيعتها حركات احتجاجية سلمية تخلق إحراجا مباشرا للدولة، ولا تحتاج إلى أي حزب طليعي يقودها؛ نظرا لكون الأعضاء المشاركين فيها قد تشبعوا بروح الديموقراطية وحقوق الإنسان وأساسها، على الإطلاق، "الحق في حياة سعيدة ومستدامة". وتجدر الإشارة إلى أن الثورة المعلوماتية لم توفر للناس وسائل التواصل والتنسيق فحسب، بل حررتهم - وهذا هو الأهم - من نموذج الدولة المركزية؛ حامية الثروة والهوية الوطنية من عبث الدخلاء والمؤامرات الخارجية، ومن "قصور" و"عدم رشد" الفاعلين المحليين. ولا غرابة في أن ينفجر الشارع العربي والمنطقة المغاربية بعد فضائح ويكليكس مباشرة.
وإذا كان كارل ماركس يقترح تعريف المجتمعات انطلاقا من تناقض أساسي وتاريخي تدور حوله باقي التناقضات مشكلة طبيعة المجتمع خلال حقبة زمنية معينة، فإن مانويل كاستلز يسير على نفس الخطى عندما يقترح تعريف المجتمع المعلوماتي، أي المجتمع الذي تنتجه الثورة المعلوماتية في تضافرها مع رهانات العولمة الاقتصادية، انطلاقا من تناقض أساسي؛ مفاده أن صدعا داخل المجتمع سوف يزيد عمقه ويتسع مداه في زمن العولمة بين الوظيفة والمعنى، فماذا يقصد كاستلز بهذه العبارة؟
يستعمل مانويل كاستلز للتعبير عن نفس التناقض عبارة "الشبكة والذات"؛ ويقصد أنه "في عالم يشهد تدفقا كبيرا للثروة والسلطة والصورة، يميل الأفراد، بالمقابل، إلى البحث عن هوية جماعية أو فردية يعتبرونها المصدر الأول للمعنى الاجتماعي. وإذا لم يكن في هذا الأمر جديد يذكر؛ حيث شكلت الهوية منذ زمن بعيد، لاسيما الدينية والإثنية منها، مصدرا للمعنى والدلالة الاجتماعيين، فإنها، اليوم، تصير المصدر الأساسي أو، بالأحرى، المصدر الوحيد لهذا المعنى؛ خصوصا وأن مجتمعاتنا تعيش مرحلة تاريخية تتميز بتفكك عام للتنظيمات الاجتماعية، وفقدان المؤسسات للمشروعية، وذبول الحركات الاجتماعية الكبرى، وزوال تعبيرات ثقافية مهمة".
وبعبارة بليغة ومقتضبة ، يعبر مانويل كاستلز عن هذا التناقض كما يلي: "لقد أصبحنا نؤسس معنى وجودنا، أكثر فأكثر، حول ما نحن إياه، أو نعتقد أننا إياه، وليس حول ما نفعله". وهذا يعني انفصال المعنى عن الوظيفة؛ فبقدر ما تتوحد الشبكات العالمية لتبادل الخيرات المادية والتقنية بقدر ما يميل الأفراد، وعلى نحو يثير الاستغراب، إلى البحث عن هوية أساسية متجذرة في التاريخ. وتجد هذه المفارقة أصلها في طبيعة المجتمع المعلوماتي الذي يعتبر، برأي ألان تورين، المجتمع الأول في التاريخ الإنساني الكوني حيث لم تعد التكنولوجيا تفعل فعلها في المجتمع تحت وصاية الثقافة والتصورات التي يروجها المجتمع حول السلطة. الأمر يتعلق، إذن، بانتصار ساحق للعقل الأداتي واستقلال منطق التطور التكنولوجي عن باقي ضروب المنطق التي يروج لها المجتمع. لكن، وفي مقابل هذا الانتشار الكاسح للعقل الأداتي داخل حقل المعاملات المادية بين بلدان العالم، ينهض المجتمع للمقاومة معتمدا على رصيده التاريخي ومقومات معقوليته، فيبرز في ساحة المواجهة فاعلون جدد: حركات اجتماعية تتشكل حول مهام الدفاع عن الهويات والبيئة وإعادة تعريف دور المرأة داخل المجتمع، و"تشهد على تحول تاريخي ينتقل بموجبه التناقض المركزي للمجتمعات الرأسمالية من عالم الإنتاج إلى عالم الاستهلاك والسكن والحياة الحضرية".
يفسر هذا التناقض المحوري طبيعة الحركات الاجتماعية الجديدة التي يزيد تأثيرها في الحياة السياسية والاجتماعية يوما بعد يوم، والتي أصبحت تلهم منظري الديمقراطية بشكل من الأشكال وتقودهم إلى إعادة تعريف الديمقراطية على خلفية مفاهيم من قبيل الإنصاف والفضاء العمومي والمعقولية وحقوق الأقليات وحقوق البيئة إلخ. وتجدر الإشارة إلى أن الشباب هم الفئة الاجتماعية الأكثر تضررا من هذا التحول التاريخي الذي يشهده الشرط المادي لوجودنا الاجتماعي، ومنه طبيعة حياتنا الحضرية وثقافتنا التي تستند على تمثل جديد للزمان والمكان؛ وذلك بالنظر إلى أهمية النسبة التي تمثلها فئة الشباب من الساكنة النشيطة داخل المجتمع، وكذا ارتباط الشباب مباشرة بعمليات التنشئة الاجتماعية، أو قل العمليات التي يتحقق من خلالها الاجتماع البشري وتتعزز بفضلها ميكانيزمات التماسك الاجتماعي (la socialisation). ولعل هذا ما يفسر الإسهام القوي والكبير للشباب في الحركات الاجتماعية الجديدة.
اتساع الهامشية، وإعادة ربط الصلة بالدين
كان ماركس يعتبر أن المجتمع الرأسمالي يميل بطبعه إلى توحيد فئات واسعة من الناس في طبقات اجتماعية عريضة، ومن ثمة جعل بنيات المجتمع أكثر بساطة ووضوحا. لكن الملاحظ، في زمن العولمة، أن عددا كبيرا من الفئات الاجتماعية أصبح يوجد على هامش مسلسل الإنتاج، وأصبحت البطالة ظاهرة مميزة لعصر العولمة. غير أن هذا لا يعني أن البطالة لم تكن موجودة في المجتمع الصناعي، وإنما تحول مضمونها بشكل جدري؛ حيث أصبحت معدلاتها تفوق بكثير ما يفيد توفير خزان احتياطي من اليد العاملة القمينة بالحفاظ على الأجور في حدودها الدنيا، التي تسمح بإعادة إنتاج جهد العمل.
لقد ارتفع معدل البطالة في زمن العولمة بشكل كبير، وتجاوز عدد العاطلين عن العمل المستوى الذي يسمح بالحفاظ على أجور متدنية. وهذا يعني أننا إزاء ظاهرة بنيوية ترتبط بالمجتمع ما بعد الصناعي تتمثل في تشكل كتلة هامشية لم يعد لها أي دور في تحقق الرأسمالية؛ الشيء الذي يفسر لماذا أضحت التفاوتات الاجتماعية تعبر عن ذاتها في قاموس بعيد عن مفاهيم الصراع الطبقي بالرغم من ان العولمة تزيد من حدة التفاوتات الاجتماعية وبوتيرة سريعة.
لقد كف الشغل، في عصر العولمة، عن أن يكون مصدرا لبناء هوية اجتماعية، وهذا ما يعبر عنه مانويل كاستلز بانفصال المعنى عن الوظيفة؛ حيث أدت العولمة، وعلى نحو سريع وغير مسبوق، إلى تفتيت عالم الشغل وزحزحة عمليات التنشئة الاجتماعية المرتبطة به. ولا ينبغي أن ننسى المكانة المحورية التي اضطلع بها الشغل في تشكيل الهوية الجماعية للمجموعات المهنية داخل المجتمع الصناعي؛ فهو لم يكن مجرد مبادلة أداتية بين جهد عمل وأجر، بل محور تتشكل حوله نظم من الاجتماع والثقافة والقيم.
إن العولمة، بزجها لحشود الشباب داخل عالم البطالة المكثفة، لا تخلق واقعا من البؤس فحسب، وإنما تخلق عطلا أو قل أزمة في المشروعيات التي يستند إليها المجتمع لتبرير وجوده، سواء ما تعلق منها بالنظرة العامة للوجود؛ حيث يتخذ مفهوما الظلم والعدالة دلالتهما في علاقتهما بالإسهام أو عدم الإسهام في إنتاج الثروة من جهة وامتلاكها من جهة أخرى، أو ما تعلق منها بالحياة اليومية؛ حيث يستأثر الأب بسلطة نظير ما يبذله من جهد عمل لإعالة أفراد أسرته. وفي الحالتين معا، عندما تكف عمليات التنشئة الاجتماعية عن أداء أدوارها التقليدية، يتحمل الشباب عبء البحث عن البدائل؛ فإما الانخراط في تشكيل هوية جديدة والإسهام في خلق ديناميا جماعية قوية (أحداث ما سمي بالربيع العربي، وفي المغرب: حركة 20 فبراير مثلا)، وإما الارتماء في أحضان العنف الذي تستغله القوى المحافظة وتسخره من أجل زرع الخوف داخل النفوس وتكريس الهاجس الأمني في التعامل مع أحداث عنف الشباب (في المغرب: انتشار خطاب التشرميل مثلا). وما يهمنا في هذا المقام هو معرفة كيف يتم توظيف العنف من أجل تشكيل رأي عام، ليس حول السلوك العنيف في حد ذاته، وإنما حول طبيعة التعاقد الاجتماعي في شموليته.
وإذا اعتبرنا المجتمع شكلا من أشكال التأليف بين غايات مشروعة ووسائل ملائمة، كما هو الحال بالنسبة للمجتمع الصناعي على سبيل المثال؛ حيث استهلاك الخيرات هو الغاية القصوى والعمل هو الوسيلة المشروعة الكفيلة بتحقيق هذه الغاية، فإن العولمة التي تحدث شرخا بين غاية المجتمع ووسيلته، تقود الشباب إلى تبني مواقف جديدة يمكن أن نميز فيها بين اتجاهين عريضين: فأما الاتجاه الأول، فيسعى إلى إلغاء الغاية المشروعة، ويمكن أن ندرج فيه مختلف أشكال التطرف الديني التي تقوم على أساس الرغبة عن كل مظاهر الاستهلاك والحياة الحضرية، طالما أن الولوج إليها أصبح أمرا صعبا إن لم نقل مستحيلا. وأما الاتجاه الثاني، فيسعى إلى البحث عن الوسائل غير المشروعة وتسخيرها من أجل بلوغ الغايات المشروعة. ويمكن أن ندرج هنا مختلف أشكال جنوح الشباب التي تسمح بتأويلها، وعلى نحو مثير للاستغراب، كبحث عن معيارية مفقودة.
يبدو أن تدين الشباب والمنظورية التي يتميز بها داخل الحواضر الكبرى، ولاسيما داخل الأحياء الشعبية، يعتبر بمثابة استراتيجيا فاعلين حضريين يسعون إلى إيجاد حلول لمشكلة عدم الأمان الذي ينجم عن تفكك الأشكال التقليدية للتماسك الاجتماعي، وتخلي الدولة، تحت ضغط العولمة، عن نهج سياسة اجتماعية عادلة. وتنضاف إلى هذه المعادلة التي تهم التحولات التي يشهدها الشرط المادي للوجود البشري، وبخاصة داخل حواضرنا الكبرى، معادلة تهم التحولات الإيديولوجية التي شهدها العالم في أعقاب تفكك المنظومة الاشتراكية؛ حيث فقد عالم الشغل تلك البوصلة التي كانت تقوده نحو أهدافه البعيدة جدا، فالماركسية لم تكن توفر للعمال حلولا للمشاكل التي كانوا يتخبطون فيها يوميا فحسب، بل منحتهم غاية كبرى ورسمت لهم هدفا بعيدا، ومن ثمة أصبح للعمال قيمة تاريخية، وأصبحوا يحملون رسالة إنسانية. أما اليوم، وعلى إثر التراجع الذي شهدته الحركة العمالية العالمية، فقد عالم الشغل ذلك الهدف البعيد الذي كان يمنحه بنيته العامة، وفقد تلك الجاذبية التي كانت تؤهله لخلق هوية جماعية، ولم يتبق للعمال والفئات الشعبية التي تعيش واقع الهشاشة الاجتماعية والفقر المدقع سوى الدين قادرا على وضع هدف بعيد متعال عن المصالح الجزئية والمتنافرة التي أصبحت تميز عالم الشغل في عصر العولمة.
وحينما يصير الدين عاملا قويا من عوامل التماسك الاجتماعي، يتخذ العنف المرافق له طابعا خاصا؛ بحيث يصير مقترنا على نحو وثيق بالقرب. ونعني بذلك أن خوض الصراع باسم الدين يخلق في النهاية نزعة طائفية تعرج بالصراع نحو الداخل؛ أي تمنح الأولوية للصراع من أجل تطهير الذات ومحاربة القريب الذي يشكل، برأيها، خطرا أكبر من الخطر الذي يشكله البعيد، مادام يعتبر عنصر تشويش على الهوية.
كان ماركس يعتبر أن المجتمع الرأسمالي يميل بطبعه إلى توحيد فئات واسعة من الناس في طبقات اجتماعية عريضة، ومن ثمة جعل بنيات المجتمع أكثر بساطة ووضوحا. لكن الملاحظ، في زمن العولمة، أن عددا كبيرا من الفئات الاجتماعية أصبح يوجد على هامش مسلسل الإنتاج، وأصبحت البطالة ظاهرة مميزة لعصر العولمة. غير أن هذا لا يعني أن البطالة لم تكن موجودة في المجتمع الصناعي، وإنما تحول مضمونها بشكل جدري؛ حيث أصبحت معدلاتها تفوق بكثير ما يفيد توفير خزان احتياطي من اليد العاملة القمينة بالحفاظ على الأجور في حدودها الدنيا، التي تسمح بإعادة إنتاج جهد العمل.
لقد ارتفع معدل البطالة في زمن العولمة بشكل كبير، وتجاوز عدد العاطلين عن العمل المستوى الذي يسمح بالحفاظ على أجور متدنية. وهذا يعني أننا إزاء ظاهرة بنيوية ترتبط بالمجتمع ما بعد الصناعي تتمثل في تشكل كتلة هامشية لم يعد لها أي دور في تحقق الرأسمالية؛ الشيء الذي يفسر لماذا أضحت التفاوتات الاجتماعية تعبر عن ذاتها في قاموس بعيد عن مفاهيم الصراع الطبقي بالرغم من ان العولمة تزيد من حدة التفاوتات الاجتماعية وبوتيرة سريعة.
لقد كف الشغل، في عصر العولمة، عن أن يكون مصدرا لبناء هوية اجتماعية، وهذا ما يعبر عنه مانويل كاستلز بانفصال المعنى عن الوظيفة؛ حيث أدت العولمة، وعلى نحو سريع وغير مسبوق، إلى تفتيت عالم الشغل وزحزحة عمليات التنشئة الاجتماعية المرتبطة به. ولا ينبغي أن ننسى المكانة المحورية التي اضطلع بها الشغل في تشكيل الهوية الجماعية للمجموعات المهنية داخل المجتمع الصناعي؛ فهو لم يكن مجرد مبادلة أداتية بين جهد عمل وأجر، بل محور تتشكل حوله نظم من الاجتماع والثقافة والقيم.
إن العولمة، بزجها لحشود الشباب داخل عالم البطالة المكثفة، لا تخلق واقعا من البؤس فحسب، وإنما تخلق عطلا أو قل أزمة في المشروعيات التي يستند إليها المجتمع لتبرير وجوده، سواء ما تعلق منها بالنظرة العامة للوجود؛ حيث يتخذ مفهوما الظلم والعدالة دلالتهما في علاقتهما بالإسهام أو عدم الإسهام في إنتاج الثروة من جهة وامتلاكها من جهة أخرى، أو ما تعلق منها بالحياة اليومية؛ حيث يستأثر الأب بسلطة نظير ما يبذله من جهد عمل لإعالة أفراد أسرته. وفي الحالتين معا، عندما تكف عمليات التنشئة الاجتماعية عن أداء أدوارها التقليدية، يتحمل الشباب عبء البحث عن البدائل؛ فإما الانخراط في تشكيل هوية جديدة والإسهام في خلق ديناميا جماعية قوية (أحداث ما سمي بالربيع العربي، وفي المغرب: حركة 20 فبراير مثلا)، وإما الارتماء في أحضان العنف الذي تستغله القوى المحافظة وتسخره من أجل زرع الخوف داخل النفوس وتكريس الهاجس الأمني في التعامل مع أحداث عنف الشباب (في المغرب: انتشار خطاب التشرميل مثلا). وما يهمنا في هذا المقام هو معرفة كيف يتم توظيف العنف من أجل تشكيل رأي عام، ليس حول السلوك العنيف في حد ذاته، وإنما حول طبيعة التعاقد الاجتماعي في شموليته.
وإذا اعتبرنا المجتمع شكلا من أشكال التأليف بين غايات مشروعة ووسائل ملائمة، كما هو الحال بالنسبة للمجتمع الصناعي على سبيل المثال؛ حيث استهلاك الخيرات هو الغاية القصوى والعمل هو الوسيلة المشروعة الكفيلة بتحقيق هذه الغاية، فإن العولمة التي تحدث شرخا بين غاية المجتمع ووسيلته، تقود الشباب إلى تبني مواقف جديدة يمكن أن نميز فيها بين اتجاهين عريضين: فأما الاتجاه الأول، فيسعى إلى إلغاء الغاية المشروعة، ويمكن أن ندرج فيه مختلف أشكال التطرف الديني التي تقوم على أساس الرغبة عن كل مظاهر الاستهلاك والحياة الحضرية، طالما أن الولوج إليها أصبح أمرا صعبا إن لم نقل مستحيلا. وأما الاتجاه الثاني، فيسعى إلى البحث عن الوسائل غير المشروعة وتسخيرها من أجل بلوغ الغايات المشروعة. ويمكن أن ندرج هنا مختلف أشكال جنوح الشباب التي تسمح بتأويلها، وعلى نحو مثير للاستغراب، كبحث عن معيارية مفقودة.
يبدو أن تدين الشباب والمنظورية التي يتميز بها داخل الحواضر الكبرى، ولاسيما داخل الأحياء الشعبية، يعتبر بمثابة استراتيجيا فاعلين حضريين يسعون إلى إيجاد حلول لمشكلة عدم الأمان الذي ينجم عن تفكك الأشكال التقليدية للتماسك الاجتماعي، وتخلي الدولة، تحت ضغط العولمة، عن نهج سياسة اجتماعية عادلة. وتنضاف إلى هذه المعادلة التي تهم التحولات التي يشهدها الشرط المادي للوجود البشري، وبخاصة داخل حواضرنا الكبرى، معادلة تهم التحولات الإيديولوجية التي شهدها العالم في أعقاب تفكك المنظومة الاشتراكية؛ حيث فقد عالم الشغل تلك البوصلة التي كانت تقوده نحو أهدافه البعيدة جدا، فالماركسية لم تكن توفر للعمال حلولا للمشاكل التي كانوا يتخبطون فيها يوميا فحسب، بل منحتهم غاية كبرى ورسمت لهم هدفا بعيدا، ومن ثمة أصبح للعمال قيمة تاريخية، وأصبحوا يحملون رسالة إنسانية. أما اليوم، وعلى إثر التراجع الذي شهدته الحركة العمالية العالمية، فقد عالم الشغل ذلك الهدف البعيد الذي كان يمنحه بنيته العامة، وفقد تلك الجاذبية التي كانت تؤهله لخلق هوية جماعية، ولم يتبق للعمال والفئات الشعبية التي تعيش واقع الهشاشة الاجتماعية والفقر المدقع سوى الدين قادرا على وضع هدف بعيد متعال عن المصالح الجزئية والمتنافرة التي أصبحت تميز عالم الشغل في عصر العولمة.
وحينما يصير الدين عاملا قويا من عوامل التماسك الاجتماعي، يتخذ العنف المرافق له طابعا خاصا؛ بحيث يصير مقترنا على نحو وثيق بالقرب. ونعني بذلك أن خوض الصراع باسم الدين يخلق في النهاية نزعة طائفية تعرج بالصراع نحو الداخل؛ أي تمنح الأولوية للصراع من أجل تطهير الذات ومحاربة القريب الذي يشكل، برأيها، خطرا أكبر من الخطر الذي يشكله البعيد، مادام يعتبر عنصر تشويش على الهوية.
أفول المنهجية الوطنية أو في الحاجة إلى يسار كوسموبوليتي (cosmopolitique)
يرتبط أفول المنهجية الوطنية بإشكالية أساسية تتعلق بظاهرة العولمة الثقافية التي باتت تجتاح عوالمنا المحلية الصغيرة، والتناقضات التي تسفر عنها مواجهة المحلي للعالمي في ضوء هذا الاجتياح. أكيد أن جميع أقطار العالم اليوم تسير نحو التعولم بوتيرة سريعة جدا. لكن غالبا ما نحصر فهمنا للعولمة في إطار ضيق يحولها إلى ظاهرة انتشار وتوسع كمي. هذا فيما هي، في الواقع، أكثر من ذلك بكثير. إنها حركة تحويل نوعي للمشروعيات. وهذا أمر لا يتم من دون ترددات ومقاومات ثقافية بالمعنى الواسع للكلمة.
لقد اتجهت الدولة القطرية في العالم العربي والإسلامي منذ الاستقلال إلى يومنا هذا باتجاه مركزية قوية، وبررت هذا التوجه العام بدعوى الحفاظ على الثروة الوطنية ضد الاستعمار والأطماع الأجنبية. ولعل هذه الصورة العامة هي التي أسست مشروعية الدولة القطرية سواء على مستوى الفعل أو الخطاب. حتى إذا تحقق الاستقلال على مستوى الشكل تجددت هذه المشروعية من خلال تيمة الانتقال من الجهاد الأصغر (نيل الاستقلال) إلى الجهاد الأكبر (الحفاظ عليه ومواجهة المؤامرات الخارجية التي تريد أن تعيد إلينا الاستعمار من خلف ستار التحديث ). إلا أن زحف العولمة الجارف أصبح يضع الدولة المركزية ومشروعيتها في أزمة وإحراج. فالدولة المركزية اليوم لم تعد قادرة على أن تفي بتعهداتها سواء في ما يخص حماية الحدود أو –وهذا هو الأهم- حماية التراث والهوية. هكذا، وأمام الإخفاقات المتتالية للدولة المركزية في الحفاظ على التراث والثقافة المحلية، تنبعث الهوامش للنهوض بالأمر دون وكالة الدولة. فهذا العجز الذي أبدته الدولة المركزية، في ظل تحول العالم إلى قرية صغيرة، دفع بالهوامش تدريجيا إلى مساءلة المركز في مستوى أول ثم المطالبة بالانفصال عنه في مستوى ثان. والغريب في الأمر هو أن الهوامش سوف تجد في المبادئ العامة للعولمة الثقافية سندا لها في معركتها ضد المركز! مما سوف يمنح لهذا الأخير فرصة أخرى لملاعبة الهامش. فالدولة المركزية اليوم تعمل على تهذيب كل محاولة من الهامش للاستقلالية الثقافية، متذرعة في ذلك بحجة مفادها أن المنافسة المفتوحة بين المشروعيات الثقافية عموما والدينية على وجه التحديد، والتي تعبر عن مطالبة الهوامش بأحقيتها في تمثيل الدين وخوض معركة مواجهة العولمة الثقافية بنفسها، قد تفضي في النهاية إلى إخراج الديني من السياسي كما حدث في أوروبا القرن الثامن عشر. هكذا بدأت الأحزاب الدينية تقتنع تدريجيا بحيوية تثبيت الطابع الديني للدولة وأولويته قياسا إلى معركة رفع الظلم عن الناس؛ وذلك لأن الخطر الأكبر الذي يتهدد الجميع بعد فشل التفاوض هو التدخل الخارجي وحل التناقض على أرضية حقوق الإنسان كما يراها "الغرب". إن المعركة التي تجمع الدولة والأحزاب الإسلامية ليست حربا مفتوحة كما قد تبدو للبعض، بل هي لعبة مشروطة وسقف شروطها ألا تتحول المواجهة إلى فرصة لا يستفيد منها إلا "الآخر".
إن السياسة اليوم، في أساسها، بحث عن سبيل ما لتدبير لعبة المركز والأطراف؛ وهذا يعني أن محتوى الدولة، باعتبارها لعبة سياسية، يتغير جذريا؛ مما يتطلب بعث فاعلين جدد وتسخيرهم لحماية الهوية الثقافية والدينية، بعدما انتهى دور الفاعلين التقليديين في حماية الوطن والديمقراطية الفتية.
ويزيد من تعقيد المشكلة صعود الفردانية؛ أي إعلان الاستقلالية الفردية إزاء مختلف أشكال الحياة الاجتماعية والجماعية في مستوى أول، ثم بحث كل فرد عن الاختلاف عن باقي الأفراد والتميز عنهم في مستوى ثان. ويعتبر أولغيش بيك Ulrich Beck الفردانية مؤشر قوي على تغير في العلاقات بين الأفراد والمؤسسات يقود بالضرورة إلى إعادة تحديد التفاوتات الاجتماعية وتعريفها. وتجدر الإشارة إلى أن أولغيش بيك يربط صعود الفردانية وضمور الصراع الطبقي بظاهرة تدويل التفاوتات الاجتماعية transnationalisation des inégalités sociales؛ حيث يفيض مضمون المشاكل الاجتماعية والسياسية التي يطرحها تدويل التفاوتات الاجتماعية عن قوالب المؤسسات التقليدية : الدولة-الأمة، الأحزاب، النقابات، مؤسسات الدولة-الرعاية، السوسيولوجيات الوطنية.
يرتبط ضمور الصراع الطبقي في هذا التحليل بعجز الدولة-الأمة، باعتبارها إطارا سياسيا يقوم على أساس تعاقد طبقي، على استيعاب مضمون الصراعات الحالية. فقد كانت الصراعات الطبقية تحتد وتخبو تبعا للأسلوب المعتمد في تدبير الثروة داخل حدود الوطن الواحد، ومدى اتفاق أو اختلاف الأطراف الأساسية المعنية بهذا التدبير. وكان حدوث ثورة طبقية، ضمن هذا المنطق، يعني ان الدولة-الأمة عجزت عن توفير إطار سياسي قادر على استيعاب التناقضات الطبقية وتدبير الصراعات المترتبة عنها. أما اليوم فإن ارتباط التفاوتات الاجتماعية داخل البلد الواحد بشروط عالمية لإنتاج الخيرات وتوزيعها يدعو بالضرورة إلى إعادة تعريف قوى التغيير، وضمنها اليسار، انطلاقا من اعتماد نظرة كوسموبوليتية من أجل فهم دينامية التفاوتات الاجتماعية في بداية القرن الواحد والعشرين.
يرتبط أفول المنهجية الوطنية بإشكالية أساسية تتعلق بظاهرة العولمة الثقافية التي باتت تجتاح عوالمنا المحلية الصغيرة، والتناقضات التي تسفر عنها مواجهة المحلي للعالمي في ضوء هذا الاجتياح. أكيد أن جميع أقطار العالم اليوم تسير نحو التعولم بوتيرة سريعة جدا. لكن غالبا ما نحصر فهمنا للعولمة في إطار ضيق يحولها إلى ظاهرة انتشار وتوسع كمي. هذا فيما هي، في الواقع، أكثر من ذلك بكثير. إنها حركة تحويل نوعي للمشروعيات. وهذا أمر لا يتم من دون ترددات ومقاومات ثقافية بالمعنى الواسع للكلمة.
لقد اتجهت الدولة القطرية في العالم العربي والإسلامي منذ الاستقلال إلى يومنا هذا باتجاه مركزية قوية، وبررت هذا التوجه العام بدعوى الحفاظ على الثروة الوطنية ضد الاستعمار والأطماع الأجنبية. ولعل هذه الصورة العامة هي التي أسست مشروعية الدولة القطرية سواء على مستوى الفعل أو الخطاب. حتى إذا تحقق الاستقلال على مستوى الشكل تجددت هذه المشروعية من خلال تيمة الانتقال من الجهاد الأصغر (نيل الاستقلال) إلى الجهاد الأكبر (الحفاظ عليه ومواجهة المؤامرات الخارجية التي تريد أن تعيد إلينا الاستعمار من خلف ستار التحديث ). إلا أن زحف العولمة الجارف أصبح يضع الدولة المركزية ومشروعيتها في أزمة وإحراج. فالدولة المركزية اليوم لم تعد قادرة على أن تفي بتعهداتها سواء في ما يخص حماية الحدود أو –وهذا هو الأهم- حماية التراث والهوية. هكذا، وأمام الإخفاقات المتتالية للدولة المركزية في الحفاظ على التراث والثقافة المحلية، تنبعث الهوامش للنهوض بالأمر دون وكالة الدولة. فهذا العجز الذي أبدته الدولة المركزية، في ظل تحول العالم إلى قرية صغيرة، دفع بالهوامش تدريجيا إلى مساءلة المركز في مستوى أول ثم المطالبة بالانفصال عنه في مستوى ثان. والغريب في الأمر هو أن الهوامش سوف تجد في المبادئ العامة للعولمة الثقافية سندا لها في معركتها ضد المركز! مما سوف يمنح لهذا الأخير فرصة أخرى لملاعبة الهامش. فالدولة المركزية اليوم تعمل على تهذيب كل محاولة من الهامش للاستقلالية الثقافية، متذرعة في ذلك بحجة مفادها أن المنافسة المفتوحة بين المشروعيات الثقافية عموما والدينية على وجه التحديد، والتي تعبر عن مطالبة الهوامش بأحقيتها في تمثيل الدين وخوض معركة مواجهة العولمة الثقافية بنفسها، قد تفضي في النهاية إلى إخراج الديني من السياسي كما حدث في أوروبا القرن الثامن عشر. هكذا بدأت الأحزاب الدينية تقتنع تدريجيا بحيوية تثبيت الطابع الديني للدولة وأولويته قياسا إلى معركة رفع الظلم عن الناس؛ وذلك لأن الخطر الأكبر الذي يتهدد الجميع بعد فشل التفاوض هو التدخل الخارجي وحل التناقض على أرضية حقوق الإنسان كما يراها "الغرب". إن المعركة التي تجمع الدولة والأحزاب الإسلامية ليست حربا مفتوحة كما قد تبدو للبعض، بل هي لعبة مشروطة وسقف شروطها ألا تتحول المواجهة إلى فرصة لا يستفيد منها إلا "الآخر".
إن السياسة اليوم، في أساسها، بحث عن سبيل ما لتدبير لعبة المركز والأطراف؛ وهذا يعني أن محتوى الدولة، باعتبارها لعبة سياسية، يتغير جذريا؛ مما يتطلب بعث فاعلين جدد وتسخيرهم لحماية الهوية الثقافية والدينية، بعدما انتهى دور الفاعلين التقليديين في حماية الوطن والديمقراطية الفتية.
ويزيد من تعقيد المشكلة صعود الفردانية؛ أي إعلان الاستقلالية الفردية إزاء مختلف أشكال الحياة الاجتماعية والجماعية في مستوى أول، ثم بحث كل فرد عن الاختلاف عن باقي الأفراد والتميز عنهم في مستوى ثان. ويعتبر أولغيش بيك Ulrich Beck الفردانية مؤشر قوي على تغير في العلاقات بين الأفراد والمؤسسات يقود بالضرورة إلى إعادة تحديد التفاوتات الاجتماعية وتعريفها. وتجدر الإشارة إلى أن أولغيش بيك يربط صعود الفردانية وضمور الصراع الطبقي بظاهرة تدويل التفاوتات الاجتماعية transnationalisation des inégalités sociales؛ حيث يفيض مضمون المشاكل الاجتماعية والسياسية التي يطرحها تدويل التفاوتات الاجتماعية عن قوالب المؤسسات التقليدية : الدولة-الأمة، الأحزاب، النقابات، مؤسسات الدولة-الرعاية، السوسيولوجيات الوطنية.
يرتبط ضمور الصراع الطبقي في هذا التحليل بعجز الدولة-الأمة، باعتبارها إطارا سياسيا يقوم على أساس تعاقد طبقي، على استيعاب مضمون الصراعات الحالية. فقد كانت الصراعات الطبقية تحتد وتخبو تبعا للأسلوب المعتمد في تدبير الثروة داخل حدود الوطن الواحد، ومدى اتفاق أو اختلاف الأطراف الأساسية المعنية بهذا التدبير. وكان حدوث ثورة طبقية، ضمن هذا المنطق، يعني ان الدولة-الأمة عجزت عن توفير إطار سياسي قادر على استيعاب التناقضات الطبقية وتدبير الصراعات المترتبة عنها. أما اليوم فإن ارتباط التفاوتات الاجتماعية داخل البلد الواحد بشروط عالمية لإنتاج الخيرات وتوزيعها يدعو بالضرورة إلى إعادة تعريف قوى التغيير، وضمنها اليسار، انطلاقا من اعتماد نظرة كوسموبوليتية من أجل فهم دينامية التفاوتات الاجتماعية في بداية القرن الواحد والعشرين.
في الحاجة إلى حركة شعبية موسعة ومتمفصلة
(articulée)
منذ بداية السبعينات من القرن الماضي بدأ يبرز فاعلون جدد داخل حقل الصراع الاجتماعي؛ يتعلق الأمر بالنساء والشباب والعمال المهاجرون وغيرهم من الشرائح الاجتماعية التي لا تتقاطع مصالحها بالضرورة مع مصالح البروليتاريا الكلاسيكية. الأمر الذي سيقود إلى طرح سؤال أساسي حول جدوى انتظار النضج السياسي لطبقة يفترض أن مصلحتها تتوافق مع الحركة العامة لتاريخ للإنسانية. ماذا نفعل حيال الانقسام المتزايد لعالم الشغل بين عمال تتميز ظروف عملهم بالاستقرار ويتوفرون على ضمانات كافية للاستمرار في مناصب شغلهم، وعمال يعيشون وضعية الهشاشة الاجتماعية؟ وكيف نساهم في التوحيد بين مطالب اجتماعية جديدة ليس لها علاقة مباشرة بعالم الإنتاج والشغل مثل المطالب التي ترفعها وترافع من أجلها الحركات الاحتجاجية المدافعة عن البيئة، والحركات النسائية، والحركات الثقافية وغيرها من الحركات التي تعبر عن التفاوتات التي تخلقها الحياة الحضرية الجديدة؟
يبدو أن العولمة أصبحت تنتج واقعا مناقضا لتكهنات الماركسية الكلاسيكية، والتي كانت تدور حول فكرة أن الشروط المادية لتطور الرأسمالية هي نفسها الشروط التي تقود حتما إلى وحدة الطبقة العمالية، وقد تم التعبير عن هذه الفكرة مجازا بالقول "إن الرأسمالية تحفر قبرها بيدها". فالعولمة، اليوم، تفتت عالم الشغل وتمزق المطالب الاجتماعية؛ ومن ثمة تدفع السياسة إلى أن تتخذ أقوى معانيها باعتبارها نظرية في الفعل الإنساني، حيث سيكف السياسي عن أن يكون مجرد تعبير عن شرط مادي تاريخي، ليتحول إلى إمكانية خلق سبل توحيد مطالب فاعلين قد تفرق بينهم المصالح والشروط المادية.
إن المشكل الرئيس الذي يقض مضجع اليساريين بصفة عامة هو معرفة الطريقة التي يمكن بها معالجة عدم التجانس الاجتماعي. وتكمن الصعوبة بالتحديد في غياب أي آلية بديهية وواضحة من شأنها أن تيسر عملية التمفصل التي كان يقوم بها الحزب السياسي في السابق. فعلى ما يبدو إن بناء العلاقات التي تسمح بإنجاز هذا التمفصل تتطلب اللجوء إلى أدوات أكثر مرونة.
يقدم مفهوم الديمقراطية الجدرية، كما يطرحه إرنيستو لاكلو Ernesto Laclau، إمكانية لحل هذا المشكل. وهو يتحدث عن تجدير الديمقراطية كلما اتسع نطاق ما يطلق عليه اسم "سلسلة الاحتجاجات المتكافئة" chaine d’équivalences. فلنفترض مثلا أننا نعيش داخل نظام قمعي لا يترك أي هامش للحريات الفردية، وأن مجموعة من العمال شرعوا في القيام بإضراب من أجل المطالبة بتحسين أجورهم. الأمر يتعلق بطلب محدد، ولكن لأن المقام والسياق يتعلقان بنظام قمعي مغلق، يتم قراءة هذا الإضراب باعتباره حركة موجهة ضد النظام السياسي برمته. ولأنه يكتسب هذه الدلالة، يمكن لهذا الإضراب أن يغذي تحركات أخرى ذات اهداف مختلفة؛ هكذا تتكون سلسلة من الأشكال الاحتجاجية المتكافئة التي تسمح، في توسع نطاقها، بالحديث عن تجدير الديمقراطية، وتشكل حركة شعبية موحدة.
منذ بداية السبعينات من القرن الماضي بدأ يبرز فاعلون جدد داخل حقل الصراع الاجتماعي؛ يتعلق الأمر بالنساء والشباب والعمال المهاجرون وغيرهم من الشرائح الاجتماعية التي لا تتقاطع مصالحها بالضرورة مع مصالح البروليتاريا الكلاسيكية. الأمر الذي سيقود إلى طرح سؤال أساسي حول جدوى انتظار النضج السياسي لطبقة يفترض أن مصلحتها تتوافق مع الحركة العامة لتاريخ للإنسانية. ماذا نفعل حيال الانقسام المتزايد لعالم الشغل بين عمال تتميز ظروف عملهم بالاستقرار ويتوفرون على ضمانات كافية للاستمرار في مناصب شغلهم، وعمال يعيشون وضعية الهشاشة الاجتماعية؟ وكيف نساهم في التوحيد بين مطالب اجتماعية جديدة ليس لها علاقة مباشرة بعالم الإنتاج والشغل مثل المطالب التي ترفعها وترافع من أجلها الحركات الاحتجاجية المدافعة عن البيئة، والحركات النسائية، والحركات الثقافية وغيرها من الحركات التي تعبر عن التفاوتات التي تخلقها الحياة الحضرية الجديدة؟
يبدو أن العولمة أصبحت تنتج واقعا مناقضا لتكهنات الماركسية الكلاسيكية، والتي كانت تدور حول فكرة أن الشروط المادية لتطور الرأسمالية هي نفسها الشروط التي تقود حتما إلى وحدة الطبقة العمالية، وقد تم التعبير عن هذه الفكرة مجازا بالقول "إن الرأسمالية تحفر قبرها بيدها". فالعولمة، اليوم، تفتت عالم الشغل وتمزق المطالب الاجتماعية؛ ومن ثمة تدفع السياسة إلى أن تتخذ أقوى معانيها باعتبارها نظرية في الفعل الإنساني، حيث سيكف السياسي عن أن يكون مجرد تعبير عن شرط مادي تاريخي، ليتحول إلى إمكانية خلق سبل توحيد مطالب فاعلين قد تفرق بينهم المصالح والشروط المادية.
إن المشكل الرئيس الذي يقض مضجع اليساريين بصفة عامة هو معرفة الطريقة التي يمكن بها معالجة عدم التجانس الاجتماعي. وتكمن الصعوبة بالتحديد في غياب أي آلية بديهية وواضحة من شأنها أن تيسر عملية التمفصل التي كان يقوم بها الحزب السياسي في السابق. فعلى ما يبدو إن بناء العلاقات التي تسمح بإنجاز هذا التمفصل تتطلب اللجوء إلى أدوات أكثر مرونة.
يقدم مفهوم الديمقراطية الجدرية، كما يطرحه إرنيستو لاكلو Ernesto Laclau، إمكانية لحل هذا المشكل. وهو يتحدث عن تجدير الديمقراطية كلما اتسع نطاق ما يطلق عليه اسم "سلسلة الاحتجاجات المتكافئة" chaine d’équivalences. فلنفترض مثلا أننا نعيش داخل نظام قمعي لا يترك أي هامش للحريات الفردية، وأن مجموعة من العمال شرعوا في القيام بإضراب من أجل المطالبة بتحسين أجورهم. الأمر يتعلق بطلب محدد، ولكن لأن المقام والسياق يتعلقان بنظام قمعي مغلق، يتم قراءة هذا الإضراب باعتباره حركة موجهة ضد النظام السياسي برمته. ولأنه يكتسب هذه الدلالة، يمكن لهذا الإضراب أن يغذي تحركات أخرى ذات اهداف مختلفة؛ هكذا تتكون سلسلة من الأشكال الاحتجاجية المتكافئة التي تسمح، في توسع نطاقها، بالحديث عن تجدير الديمقراطية، وتشكل حركة شعبية موحدة.
في الختام
هذه بعض العناصر التي نأمل أن تثير النقاش بين مختلف الفاعلين اليساريين بالمغرب. لا نعتبرها أجوبة، بل هي عناصر مساءلة لواقع نعتبره يفيض عن القوالب التقليدية المعهودة ويتطلب منا، قبل التسلح بالكفاءة اللازمة، التحلي بالجرأة والشجاعة.
هذه بعض العناصر التي نأمل أن تثير النقاش بين مختلف الفاعلين اليساريين بالمغرب. لا نعتبرها أجوبة، بل هي عناصر مساءلة لواقع نعتبره يفيض عن القوالب التقليدية المعهودة ويتطلب منا، قبل التسلح بالكفاءة اللازمة، التحلي بالجرأة والشجاعة.