الأحداث الواردة في هذه القصة، بعضها حقيقي
والبعض الآخر من وحي
الخيال وأي تشابه بين بعض الشخصيات هو مجرد صدفة.
ليالي الشتاء بمدن وقرى الأطلس المتوسط قاسية، والاحتماء بالأغطية الصوفية لا يفيد، ''الفورنو'' وحده يلهب المكان ويمنحه دفئا عابرا، تخلو الشوارع والأزقة من الناس عند إغلاق آخر إدارة عمومية، تغدو القطط والكلاب الضالة سيدة المكان تنسج بموائها ونباحها سمفونية حزينة تنضاف إلى قساوة المكان.
المسافرون الذين اضطرهم غياب وسائل النقل ، يتكومون في مقهى المحطة يترقبون مرور أي دابة حديدية تقلهم إلى وجهاتهم.. و آخرون حلوا بالمدينة لنزوة أو تجارة ا و جذبهم تشكيل الثلوج على أشجار الأرز و هناك زوار شبه دائمين يسحرهم مطعم ''مادام ديجر'' حيث يجتمع المثقفون و أشباههم يعبون الكونياك و زجاجات الجعة و يتحدثون بأصوات مرتفعة في السياسة والاجتماع و أسرار الناس و أشياء أخرى، و المخبرون يطوفون بين مجالسهم يحفظون ما يلفظون به .
في الخريف يفد على المدينة زوار من نوع آخر، أتباع الزاوية الذين يرابطون بمسجد ''ايت غريس'' والزاوية التابعة له لمدة أسبوع يمارسون طقوسهم ويقضي اغلبهم أغراض أخرى بالمدينة أو الدواوير المجاورة لها، ''حجة وزيارة كما يرددون''.
لقد تعاهد البار والمسجد على السلام منذ وجد كل منهما نفسه إلى جانب الأخر، إلى أن تسللت رياح الشرق إلى المدينة وهزت أركانها، أغلقت الحانات الواحد تلو الأخر لقربها من المسجد، فحلت اللعنة وكاد الناس يموتون من البؤس والكدر لولا غابة الشباب التي تكفلت باحتضانهم.
حانة ''السدر'' تحولت إلى مقهى هجرها الزبائن، وباع ''الصافي'' محله لوافدين من الشمال حولوه إلى مخبز، راج في المدينة فيما بعد أن مصدر أموالهم من المخدرات، ''حميدو'' أصيب بجلطة في الدماغ أودت بحياته ، أما ''مدام ديجر'' فقد هاجرت إلى إسرائيل بعدما قاومت هذه الفكرة مدة طويلة رغم الإغراءات التي قدمت لها، استسلمت و التحقت ''بدادون ودافيد'' صاحبي محطة البنزين ''طوطال'' و ''شالمو'' الإقطاعي، الذي كانت غلة ضيعته من التفاح والخوخ تصدر إلى وجهات مجهولة، و آخرون من يهود المدينة كانوا يتحكمون في التجارة والخدمات، ''فوكليس'' ذو المزاج الحاد و المبرمج كالساعة، هذا اليوناني الضخم هو الوحيد الذي استطاع المقاومة، انتزع الحق في نقل مقر حانته الأنيقة إلى مدخل المدينة.
يونيو 1981، بينما كانت الشمس تلم شتات خيوطها المبعثرة بين دروب وزقاق المدينة لترحل بها خلف الهضاب المجاورة لمنخفض ''تيكريكرا'' حيث تغيب لفترة قبل أن تعاود الظهور من على جبل ''الصباب''، سادت المدينة حركة غريبة و غير معتادة ، شاحنات محملة ''بالكوم'' تعم الشارع الرئيسي ..تحاصره و أصوات أخرى لا يميز منها إلا صوت دبدبات اللاسلكي تنقل الصوت من مكان بعيد ..''الله استر'' .. ''الله ايدير شي تاويل د الخير هاد الناس ماكايجي معاهم غير النحس''.. هكذا علق الحاج حدو وهو يطلب من ابنه ان يسرع في اغلاق المتجر..''حمو بولقهوا'' استفسر المقدم الجيلالي القابع في ركن ''تيراس المقهى'' عما يجري لكن صاحب الأخبار محتار لا يملك جوابا وعليه أن يخبر القائد بشيء وإلا افسد عليه يومه.
المخزن موبيل او ''بوزريويطة'' كما يحلوا للناس هنا تسميته .. تبدو عليهم الخشونة و البداوة انتشروا في الأحياء و الزقاق ، أغلقوا منافذ المدينة، بعدما حضروا التجول، استغل بعضهم فرصة التواجد بحي الفرج ليفك كربه في حضن بائعة هوى..قالت حليمة ''باسينا معاهم بسيف علينا'' و استطردت : اجزم أنهم لم يستحموا منذ سنين..حتى الحب الذي يفرض الانسجام يمارسونه مثل البهائم وتداركت ''حاشا'' حتى البهائم تقدم الملاطفة '' كملوها وجملوها ما عطاونا حتى فرانك''.
لم يجرأ احد على فتح شباك أو باب منزله.. الكل يراقب من كواة الأبواب و خصاص النوافذ، حتى الإنارة العمومية التي غالبا ما كانت تقطع بقيت هذه الليلة يقظة ترشد الغرباء إلى عالم يجهل الناس في المدينة تفاصيله.
حين احكم ''الكوم'' السيطرة تقدمت دوريات الدرك تجوب الدروب يرشدهم الشيوخ و المقدمين إلى مبتغاهم.
كلما أشار المرشدون إلى مسكن إلا وأمرهم قائدهم بالتوقف يقتحمون البيت المشار اليه، يسحبون الشخص المطلوب بعد أن يحتجزوا كل ما يصادفونه من كتب وأوراق تبدو لهم أداة إدانة ثم ينصرفون، لقد اعتقلوا عددا هائلا من الناس اغلبهم موظفون وتلاميذ، لم يعرف لهم مكان إلا بعد مرور عدة شهور، الأستاذ الخدير مدرس اللغة العربية اعتقلوه من داخل الإعدادية.
في حي العتبة ترجلوا عن ناقلاتهم..توجهوا نحو آخر بيت على يمين الزقاق ..طرقوا الباب بحدة حتى كادوا يقتلعوه..لم يوقفوا الطرق حتى فتح الباب و ظهر من خلفه خمسيني نحيف البنية، ''
هذا هو ..؟؟ سأل رئيس الدورية شيخ الحومة .
نعم انه هو الحاج عمر..
سحبوه بلباس نومه و انصرفوا تاركين بابا مشرعا لأسرة في طور التكويين..
أخلو سبيله حين بدأت أولى خيوط الشمس تقذف بنفسها من خلف أشجار الصنوبر التي تزين جبل ''أجلاب'' و بدا المكان ينقشع أمام المتسللين نحو الحقول و المزارع و الأسواق الأسبوعية، بعدما اكتشفوا انه ليس ضالتهم وأنهم اخطئوا العنوان، وشى به احد المخبرين نكاية به.
لم تنم زوجته ولا أولاده منذ أخذوه في الساعات الأولى من الليل..لم ينتظر أن تسأله زوجته ماذا فعلوا به وماذا يريدون منه كاد يجهش بالبكاء لولا انه أراد أن يحفظ لأطفاله كبريائهم، خنقته الدموع المحتجزة في حلقه قال وحشرجة تقطع كلامه :
لقد ضربوني في كل مكان من جسدي بعدما جردوني من ملابسي وصبوا علي الماء البارد، لم يكفهم برد الله، الذي حول قبو المقر الذي احتجزوني فيه الى ثلاجة ضخمة مثل التي تستعمل لحفض الفاكهة من التلف، وبعد يقينهم أني لا املك ما أفيدهم به استشعروا خطأهم فحملوني على سيارة عادية وقذفوا بي في الزقاق الخلفي لمنزلنا، وهم يهددونني إن شاركت في الإضراب العام غدا أو بالأحرى هذا الصباح.
لم يكن للحاج عمر اي نشاط سياسي و لم ينتم يوما لأي تنظيم، عالمه الوحيد مقهى ''تاغلاشت''،بعد العودة من العمل يقضي بقية يومه يلعب الورق وحين يداهمه الملل يقتني قنينة خمر احمر يقصد بها بيت محجوبة، اخت المخبر الذي وشى به، يحيي الليل بين أحضانها.
لا يروقه الحديث في السياسة و أكثر ما يغيظه أن يتحدث احد في بيته عن الحكام بسوء، يسمع بامتعاض مجاملة للضيف وهو يراقب النوافذ لقد كان يؤمن بان للحيطان أذان، بطولته الوحيدة التي لا يتوانى عن سردها وفي أحيان كثير يكرر حكيها، انه اتلف في صغره يافطة وضعتها سلطات الحماية على واجهة مدرسة بناها الوطنيون كانت تحمل اسما آخر غير اسم المدرسة الحقيقي.
حين انهى حديثه مع زوجته، غير الملابس المبللة وشرب شايا دافئا ونام، لم يلتحق بالعمل، مكث في بيته طول اليوم، خلال المساء صدر بيان عن الحكومة بثته الإذاعة يقول إن مشاغبين و ذوي سوابق في المدن الكبرى احرقوا ودمروا منشئات خاصة وعمومية، لكن الناس في الشارع قالوا عكس ذلك، إن فقراء هذه المدن هبوا للمطالبة بالخبز فأبادهم العسكر.
في اليوم الموالي طرق بيت بابنا نهارا، كان ساعي البريد يحمل رسالة مضمونة موجهة إلى أبي، فتحها والدي وشرع في قراءتها، امتقع لون وجهه فجأة وجف ريقه '' السيد عمر بن حماد علاقة بالموضوع أعلاه فان الإدارة تخبركم انه تم الاستغناء عن خدماتكم..''
سعيد شبري ..............فاس خريف 2015