بقلم الاستاذ حميد طولست
الإعتراف بالخطأ والاعتذار عنه ، فعل نبيل وسلوك راقي ، ودليل على التواضع والغنى الفكري والسمو العقلي ، لا يقوى على اقترافه من ضعفت شخصيته ، وقلت قدرته ، وعجز عن تحمل مسؤولياته ، لأنه سلوك لو شاع بين الناس ، بعزم ونية صادقة ، لداوى القلوب المكسورة ، ولجبر الكرامة المجروحة ، ولأذاب الغضب المتحكم في النفوس والأفئدة ، ولأصلح العلاقات المتصدعة ، وأعاد المياه إلى مجاريها .
فإذا كان الاعتذار بهذا المعنى النبيل ، وذاك التصرف الكريم ، وتلك العواقب الطيبة والنتائج الحسنة على الفرد والمجتمع ، فإن الأنبل من كل ذلك والأحسن منه ، هو انتشار ذلك السلوك الحضاري بين مسؤولي الحكومات البلدان وقيادات الشعوب وزعمائها ومنتخبيها ، أثناء تبوّئهم المراكز الرسمية والحساسة ، ويتشبعوا بتلك القيم الأخلاقية ، التي يقول فيها خير القائلين سبحانه : "والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين" ، ويقوموا بتلك المبادرة والخطوة الإيجابية ليكونوا أهلاً للتربية والقيادة والرئاسة ، لأنه ليس هناك في هذا الكون من لا يقع في الخطأ ، مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم : "كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون " وقوله تعلى : "ألم يعلموا أن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين " ، وقوله تعالى : "إن الله يقبل التوبة عن عباده ..
كم تمنينا أن نسمع صوتاً واحداً لمسؤولينا ، وهو يستعمل مصطلحا من تلك المصطلحات المتعلقة بالاعتراف بالخطأ في حق الناس والمجتمع ، والإقرار به ، والرجوع عنه ، ويردد عبارات الاعتذار والندم ومراجعة الذات ، الشيء الذي لا يحدث أبدا ، أو لماما ، حتى لو طالبت به الشعوب عبر معارضتها ، وذلك لأن الغالبية العظمى من مسؤولي البلاد العربية ، لا يحاسبون أنفسهم ولا يقبلون المحاسبة ، كما حدث مع المعارضة البرلمانية المغربية ، التي تقدمت أربعة أحزاب منها ، ببيان مشترك لرئيس الحكومة تطالبه بتقديم اعتذار علني ورسمي عما صدر عنه في جلسة المساءلة الشهرية على ما سمي بـ" اللغة البذيئة" التي يستخدمها في مخاطبة البرلمان كمؤسسة دستورية ؛ الطلب الذي قوبل بمكابرة وعناد رئيس الحكومة ورفضه البات للاعتذار، وهو يعلم عمق دلالات الاعتذار الكبيرة ، ومفاهيمه البالغة الأهمية، والتي تؤكد على المغزى الحضاري الذي لا يخرج عن تعاليم الأديان السماوية الثلاث، وخاصة الدين الإسلامي ، ويتماشى مع كل المذاهب الأخلاقية والضمير الإنساني الحي ، الذي هو جزء لا يتجزأ من صميم السلوكات التي لا يقدم عليها إلا الشجعان الذين لهم ثقة كبيرة في أنفسهم ، وقدرة خارقة على تحمل المسؤوليات. كما هو حال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي قدم اعتذاره لجموع المحامين عن التصرف الفردي المسيء، الذي صدر من أحد ضباط الشرطة ضد محام بدمياط الأسبوع الماضي ، حيث قال السيسي : "أنا بقول للمحامين كلهم حقكم عليا، وأنا بعتذر لكم يا فندم ، وبقول لكل أجهزة الدولة من فضلكم، لازم نخلى بالنا من كل حاجة، رغم الظروف اللى إحنا فيها"، موجها كلامه لوزير الداخلية ، وأضاف : "أنا بعتذر لكل مواطن مصري تعرض لأي إساءة، باعتباري مسئولا مسئولية مباشرة عن أي شيء يحصل للمواطن المصري، وبقول لأولادنا في الشرطة أو في أي مصلحة حكومية، لازم ينتبهوا أنهم بيتعاملوا مع بشر، والوظيفة تفرض عليهم التحمل، لأن المصريين أهلنا وناسنا، وما فيش حد ينفع يقسوا على أهله ".
وليس هذا هو الاعتذار الوحيد الذي قدمه الرئيس عبد الفتاح السيسي، خلال السنة الأولى من توليه رئاسة الجمهورية في عام 2014 . بل سبقته اعتذارات عديدة ، أذكر منها الاعتذار الذي قدمه لأهالي سيناء بعد عمليات إخلاء الشريط الحدودي لملاحقة العناصر الإرهابية بأرض الفيروز. حيث قال: "نحن مسؤولون عن تخفيف المعاناة عن أهالينا في سيناء"، ويليه اعتذاره للسيدة التي تعرضت لتحرش جنسي بميدان التحرير أثناء الاحتفالات بمناسبة تنصيبه رئيسا للجمهورية في العام الماضي حيث زارها في أحد المستشفيات وقدم لها الزهور اعتذارا عما تعرضت له ، وقال لها: "اعتذر وأعدك بأننا كدولة لن نقبل مثل هذه الحوادث في المستقبل"، وأضاف:" سوف نتخذ إجراءات صارمة وسنقف بقوة في وجه أي متحرش" . كما اعتذر -حسب صحيفة "الشرق الأوسط"- لأمير قطر تميم بن حمد آل ثاني عن الإساءات التي صدرت ضد والدته الشيخة موزة بنت ناصر في الإعلام المصري ، قائلا :أنه لا يمكن الإساءة إلى المرأة العربية بأي شكل من الأشكال، وقال للأمير تميم: "من فضلك بلّغها عني الاعتذار، لأنني لا أقبل مثل هذه الإساءات ليس إلى سيدة من قطر فقط ، وإنما إلى أي سيدة من أي مكان في العالم ..
مما يؤسف له أن هذه المواقف المتحضرة ، لم تثر في الكثير منا أي شيء على الإطلاق ، بل والملفت للأنظار والغريب ، أنه رغم كل ما حملته من دلالات متميزة ، فإن الجل تعامل معها بشيء من اللامبالات ، ولم تحظى بما يستحق من الاهتمام والتقدير ، ونُظر إليها على أنه خبر طريف وغريب ، ولم تخصص له جل الصحف إلا بضعة أسطر في صفحاتها الأخيرة والمخصصة في الغالب للأخبار الطريفة والعجيبة والمستملحات المسلية ..