لم تعد
الجريمة في المغرب بذلك "الكليشي" أو التصور التقليدي، لا من
حيث طرق وملابسات تنفيذها أو دوافع ارتكابها أو حتى أحيانا الغايات المتوخاة
من الفعل الجرمي. فالتطور المتسارع الذي عرفته الجريمة، لم يكن في منأى عن
التحولات المتلاحقة التي شهدها العالم، وعن العولمة الكاسحة، وكذا، عن التطور المعلومياتي
والتكنولوجي الذي جعل من هذا العالم "قرية صغيرة". علاوة على ما عرفه
مغرب الألفية الثالثة من قفزة نوعية في مجال الحريات وحقوق الإنسان، والتقيد الطوعي بالمواثيق والمعاهدات
الدولية، والنهج الذي اختاره عن قناعة واقتناع بعيدا عن الضغوطات الخارجية، والذي
يكمن في المصالحة مع التاريخ وطي صفحة الماضي، بالقطع مع جميع الممارسات البائدة.
وقد ساهم كذلك
في تطور الجريمة الذي يواكبه بالمناسبة تطور الأساليب الأمنية المعتمدة في
ردعها، الموقع الجيو–استراتيجي للمغرب، المتاخم للشريط الجنوبي لأوروبا، والممتد
على طول الشمال–الغربي لإفريقيا، والمتصل في عمقه بمنطقة الساحل والصحراء الكبرى.
ما يجعل المغرب عرضة لمخاطر مرتبطة بالجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية،
وتقاطعاتها العضوية مع الظاهرة الإرهابية. ناهيك عن كون المحيط الإقليمي الراهن،
الموسوم بالمتغيرات السياسية والأمنية في عدد من دول الجوار، مفتوحا على
التحديات الأمنية في منطقة الساحل والصحراء، المتصلة بشكل مباشر بالأمن الاستراتيجي
للمملكة المغربية.
وقد كان من تبعات التحولات التي عرفتها الجريمة، في ظل المتغيرات المتلاحقة
على الساحتين الدولية والوطنية، أن خرجت للوجود جرائم غير معهودة، كان على
المشرع التنصيص عليها، من قبيل الإرهاب
والجرائم الاقتصادية والمالية.
477.759 قضية برسم سنة 2013 :
إن إحصائيات مكافحة الإجرام برسم سنة 2013، تحيلنا على الكم الهائل من القضايا
التي سجلتها بالمناسبة المصالح الأمنية اللا ممركزة، والتي بلغت 477.759
قضية، تتوزع بين جنايات وجنح ومخالفات، أنجزت منها 440.348 مسطرة قضائية، وقدم
بموجبها 466.311 شخصا إلى النيابة العامة المختصة. حصيلة تجعلنا نبحث عن أسباب ارتفاع معدل الجريمة، الذي يقابله
الردع الذي تعتمده بعزم وحزم السلطات الأمنية، وفي طليعتها تهريب الأقراص المخدرة،
وبزوغ "حركة التشرميل"، وكذا، العقوبات السجنية المخففة أو غير الرادعة،
التي غالبا ما تكون سببا مباشرا في حالات العود والتعدد والتكرار.
"قرقوبي التزاير" ..
الحرب المعلنة :
لم تعد سرا الحرب المدمرة التي تشنها الجارة الجزائر على المغرب، بواسطة سلاح
أقراص الهلوسة المهربة، التي تعرف في أوساط المدمنين
على استهلاكها ب"القرقوبي" و"بولة حمرا". سلاح لربما
أكثر دمارا من براميل المتفجرات التي تلقيها مقاتلات نظام الأسد فوق رؤوس
السوريين، وأكثر فتكا حتى من الصواريخ المحملة بالمواد الكيماوية، التي استعملها في إبادة شعبه.
وعزت مصادر مطلعة واقع انتشار ظاهرة تسريب الأقراص المهلوسة، من التراب
الجزائري إلى أرض الوطن، إلى وجود مصالح ونيات مبيتة وراء الأنشطة التي تقوم بها
الشبكات "المافيوية" المتخصصة في اقتناء تلك "الأدوية"، من
الصيدليات بالجارة الشرقية، بعد إنتاجها بالأطنان في مختبرات ومصانع معدة لهذه
الغاية. حيث يتم ترويجها بين أوساط الشباب والمراهقين في المغرب، بتواطؤ بعض الجهات،
ومساهمة أفراد وشبكات تهريب جزائرية–مغربية. وهذه حقيقة لا تنفك السلطات
المغربية تستحضرها في كل مقاربة واستراتيجية أمنية، تهدف إلى الاحتراز من تلك
الظاهرة الإجرامية وزجرها بالسبل القانونية المتاحة. ظاهرة باتت تستدعي معالجتها، في إطار العلاقات الدولية، في المؤتمرات والملتقيات الأمنية الدولية
والإقليمية، وإدراجها على طاولة أشغال المنظمات الأمنية الدولية، وفي طليعتها
ال"أنتربول" التي يعتبر بالمناسبة المغرب والجزائر عضوين فيها.
هذا، وقد احتدمت حرب "القرقوبي" كرد فعل على ما يعتبره "نظام الكرسي
المتحرك" أو نظام الجنرالات في الجزائر "إرهاب المخدرات"، يتهم المغرب بالوقوف وراءه. إذ تستهدف هذه الحرب
القدرة إفساد الشباب المغربي، والإلقاء به في براثين الانحراف والإجرام. وقد كان
التفوق فعلا في هذه الحرب اللاأخلاقية من نصيب الجارة الشرقية التي تربطنا بها أواصل
العروبة والإسلام والتاريخ. التاريخ الذي سجل بفخر واعتزاز وقوف المغرب إلى جانب
"لشقيقة" الجزائر في محنها ونضالاتها التحررية من جبروت الاستعمار
الغاشم، الذي ظل جاثما على جسدها 130 سنة.
لقد جاءت بالمناسبة حرب أقراص الهلوسة المدمرة، إلى جانب السجائر المهربة،
لتنضاف إلى حرب أخرى ليست أقل فتكا، غايتها تخريب اقتصاد المملكة المغربية،
بتسهيل تهريب البنزين من الجزائر، والذي اكتسحت تجارته المحظورة، مناطقنا الشرقية
وأقاليمنا الجنوبية.
وعلى إثر حرب الأقراص المهلوسة المسعورة، تعبأت المصالح الأمنية اللاممركزة في
مختلف جهات المملكة، بغاية محاصرة هذه الظاهرة، سيما في أوساط الشباب والمراهقين ،
وذلك في إطار مخطط عمل أمني انطلق تفعيله
أواسط شهر أبريل 2013. وقد حجزت مصالح
الأمن في المغرب، خلال الفترة الممتدة ما بين 15 أبريل 2013، و28 ماي 2014، ما
مجموعه 458176 قرصا مخدرا من مختلف الأنواع. وعمدت إلى توقيف 2433 مروجا لهذه
السموم، في إطار 1948 قضية تتعلق بالاتجار في الأقراص المخدرة. كما تم تفكيك شبكات
"مافيوية" جزائرية–مغربية.
وتصدرت ولاية أمن الرباط المرتبة الأولى في محاربة هذه الآفة. حيث حجزت
مصالحها الولائية 288850 قرصا مهلوسا، وأوقفت 544 شخصا، في إطار 445 مسطرة قضائية.
وفي المرتبة الثانية، حلت ولاية أمن الدارالبيضاء، بحجزها 97818 قرصا مخدرا،
وإيقاف 757 شخصا، في إطار 576 قضية. واحتلت ولاية أمن وجدة المرتبة الثالثة،
بحجزها 13960 قرصا مخدرا، وتوقيف 196 شخصا، في إطار 165 قضية. فيما عالجت الفرقة
الوطنية للشرطة القضائية قضيتين، حجزت في إطارهما 23000 قرصا مهلوسا، وأوقفت 19
شخصا.
هذا، وكانت وزارة العدل والحريات قد أصدرت بلاغا بمناسبة تفضل
الملك محمد السادس بإعطاء تعليماته السامية، بالإفراج عن القاصرين، معتقلي
"أحداث الخميس الأسود"، أشار صراحة إلى أن "الاندفاع التلقائي
واللاإرادي نحو ارتكاب الجرائم، يرجع بالأساس إلى الإدمان على الأقراص
المخدرة".
ومن ثمة، فإن تسهيل عمليات تهريب "القرقوبي" بالأطنان من الجارة
الشرقية إلى تراب المملكة، سواء بالتواطؤ أو التقصير في أداء الواجب، أو حتى بحسن
النية، بسائلنا عمن تقع مسؤولية مراقبة الشريط الحدودي بين الجارتين الجزائر والمغرب.
وبالمناسبة،
لعل أنجع التدابير الاحترازية لمواجهة "ويلات الحدود"، التي يتوجب أن تتخذها
الجارتان الشقيقتان بشكل ثنائي، أو على الأقل من قبل المغرب، في حال تعنت الجزائر،
على غرار عادتها، أن يقيم (المغرب) حدود على شكل سياجات شائكة، انطلاقا من البحر
الأبيض المتوسط، تفصل عرضا بين شاطئ مرسى بن مهيدي في تلمسان وشاطئ السعيدية، وتمتد جنوبا بعمق 450 كيلومترا.
وقد تكون هذه الإجراءات خيارا استراتيجيا
لا محيد عنه، في ردة فعل صابة من المغرب على
سياسة سلطات الجزائر، من خلال استفزازاتها
العدوانية والعدوانية المتكررة، التي لم يسلم منها على الحدود المشتركة لا البشر
ولا الماشية، وكذا، دخولها في سباق مسعور للتسلح بترسانة مقاتلات وعتاد حربي جد
متطور تقتنيه من الدب الروسي.
وفد تحد كذلك السياجات الشائكة التي من شأنها أن
تزيد من هوة الفرقة والابتعاد بين الشعبين الشقيقين الجزائري˗المغربي، (قد تحد) من
"ويلات الحدود" التي تتذرع بها الجزائر لإقامة الخنادق، من قبيل زعمها مكافحة
التهريب الذي تمارسه الشبكات "المافيوية"، وكذا، مواجهة آفة الهجرة الأفريقية
نحو الشمال، وإلى عمق تراب المغرب.
"التشرميل" .. التباهي بالفعل الإجرامي :
اعتبرت
المديرية العامة للأمن الوطني أن المسألة الأمنية هي "شأن عام"، يهم
المجتمع المغربي بمختلف مكوناته. وهذا ما يستشف من الإستراتيجية والمقاربة
المديرية ثلاثية المحاور، وكذا، من الشعارات التي ترفعها الإدارة العامة من قبيل :
"الأمن قضية الجميع" و"الأمن الوطني انفتاح، تواصل وتنمية".
وقد حظي الشأن الأمني باهتمام أعلى سلطة في البلاد، حيث أضحى من القضايا الوطنية
الكبرى. وكان من نتائج التعبئة العامة مكافحة الجريمة بعزم وحزم، وإشاعة الإحساس
بالأمن والطمأنينة لدى المواطنين، وإعادة الهيبة إلى جهاز الأمن الوطني الذي مافتئ
يستهدفه بعض الانتهازيين من "أشباه الحقوقيين" و"السياسويين" و"البراغماتين"
من أصحاب المصالح الذين أحبط الأمن مخططات تحايلهم على القانون (...). هذا الجهاز الذي عمل على "أنسنة" مصالحه المركزية
واللاممركزة، وعلى الانفتاح على محيطه وعلى هيئات ومكونات المجتمع، علاوة على
تخليق المرفق الأمني وتطهيره من الممارسات اللاقانونية واللاأخلاقية، من خلال الالتزام بأحكام
قواعد السلوك الخاصة بموظفي الأمن الوطني.
وعلاقة بالتطور الذي عرفته الجريمة، فإن الجانحين من الشباب انتقلوا من الفعل
الجرمي المستهلك، إلى التباهي علنا وعلانيا بالفعل الإجرامي أمام عدسات كاميرات
الهواتف النقالة، وعلى صفحات التواصل الاجتماعي، في إطار ظاهرة ما بات يعرف ب"حركة التشرميل". وهي ظاهرة إجرامية
غير معهودة، سقط في براثينها الشباب الطائش، وارتمت في أحضانها حتى تلميذات في عمر
الزهور. ما يؤشر على الشلل الذي أصاب الأسرة والمدرسة المغربية والمجتمع
المدني، الذين من المفترض والمفروض أن يحظوا بأدوار رائدة في التربية والتوجيه
والرقي بالأخلاق، وإشاعة السلوكات المدنية وقيم المواطنة.
وقد فاق عدد الأشخاص الذين اعتقلتهم المصالح الأمنية
اللاممركزة، في إطار حركة "التشرميل"، ال130 "مشرمل"، منهم من
جرى إيقافهم متلبسين بأفعال "التشرميل".
وبالمناسبة، فقد أوقفت مصالح الأمن بالمحمدية، السبت 24 ماي 2014، عشرة
أشخاص (10) كانوا بصدد التقاط صور وتسجيلات في مكان منزو بالمحمدية، يظهرون فيها
مدججين بأسلحة بيضاء، ويحوزون هواتف محمولة وساعات يدوية، تمهيدا لنشر تلك
الصور والمقاطع المسجلة على صفحاتهم الشخصية، على "اليوتوب"
و"الفايسبوك".
وكانت المصالح الشرطية بولاية أمن طنجة أوقفت، الجمعة 18 أبريل 2014، في سابقة
أمنية، 9 شباب تتراوح أعمارهم بين 19 و 22 سنة، ضمنهم 7 تلاميذ ومصور فوتوغرافي
ونجار، إثر ضبطهم متلبسين داخل بناية مهجورة، كانت تستخدم سابقا كمؤسسة سياحية،
بإعداد ألبوم صور مفزعة وخطيرة، تظهرهم متحوزين بمسدسين بلاستيكيين و6 أقنعة
وقفازات و3 مجسمات بالشمع على شكل قنابل يدوية، ناهيك عن أسلحة بيضاء و9 هواتف
محمولة ودعامات إلكترونية وملابس وساعات يدوية، كانوا بصدد تصويرها بغاية نشرها
على حساباتهم الشخصية في مواقع التواصل الاجتماعي، وتقديمها على كونها في ملك شبكة
مسلحة، تعتزم القيام بأعمال إجرامية ضد أمن المواطنين وممتلكاتهم.
إحصائيات وأرقام صادمة :
حسب إحصائيات المديرية العامة لإدارة السجون وإعادة
الإدماج، التي تخص الفترة الممتدة من فاتح يناير 2013 وإلى غاية 31 دجنبر من السنة
نفسها (12 شهرا)، فإن عدد المعتقلين في المؤسسات السجنية، بلغ 72005 معتقلا،
المحكوم منهم 40937، والسجناء غير المحكومين 31048.
وقد بلغ عدد
السجناء القارين إلى غاية متم شهر نونبر 2013 (11 شهرا). 72426، فيما بلغ عدد
السجناء العائدين إلى السجن، برسم الفترة ذاتها (11 شهرا)، 20440، أي بنسبة 28.22
في المائة. وبالمناسبة، فإن هذه النسبة المئوية المتعلقة بحالات العود، تخص
المعتقلين بصفة عامة، خلال الفترة المحددة، أي إلى غاية متم شهر نونبر 2013 (11
شهرا).
وحسب المديرية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج،
فإن عدد المؤسسات السجنية بلغ، عند متم شهر دجنبر 2013، ما مجموعه 75 مؤسسة سجنية،
منها سجنان مركزيان، و62 سجنا محليا، و7 سجون فلاحية، و4 مراكز للإصلاح والتهذيب.
واعتبر الدكتور رشيد وهابي المحامي بهيئة الجديدة، في تعليق
على إحصائيات المديرية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج، أنها "مع الأسف
الشديد مخجلة، وأكبر شهادة وأصدق برهان وحجة على فشل
السياسة العقابية أو السياسة الجنائية بشكل عام، وعلى فشل إدارة السجون المغربية
في جعل السجين يبتعد عن الإجرام، ويندمج بشكل عادي في المجتمع، دون حنين للعودة
إلى الإجرام، وبعده من ثمة عن السجن. وهي بمثابة صفارة إنذار لا محالة ستثقب طبلة
أذان مسؤولينا الساهرين على مؤسساتنا السجنية، وكذا المخططين والمنظرين في مكاتبهم
وعروضهم لسجن وسياسة سجنية تكون أهدافهما
ومراميهما بعيدة بكل تأكيد كل البعد عما هو مسطر في هذه الأرقام. وستدعوهم لا
محالة إلى ضرورة تكثيف مختلف الجهود، لجعل نسبة العائدين إلى السجون
والإجرام أقل بكثير مما فجعتنا به هذه الإحصائيات وهذه النسبة التي تقارب الثلث،
والتي تجعلنا نعتقد أن السجن يدور ويمتلأ بشكل دوري بمجموعة من زواره القدامى".
حالات العود، التعدد والتكرار ... مسؤولية من ؟
يظهر جليا للمترددين من
صحفيين وعموم وللممارسين من محامين وقضاة، على قاعات الجلسات الخاصة بالجنحة أو
الجنايات، محاكمات منحرفين من أجل جرائم سبق أن أدينوا على خلفيتها مرة أو أكثر من
مرة. وهذا ما يعرف في القانون الجنائي بحالة العود. وحسب المادة 154 من قانون
العقوبات (مجموعة القانون الجنائي) ⁄ الفرع 4 : "يعتبر في حالة عود، طبقا
للشروط المقررة في الفصول التالية (155– 156– 157– 158– 159– 160)، من يرتكب جريمة
بعد أن حكم عليه بحكم حائز لقوة الشيء المحكوم له من أجل جريمة سابقة".
وإلى جانب ترويج المخدرات
والإدمان على استهلاكها، وفي طليعتها الأقراص المهلوسة، فإن حالات العود (la récidive) والتعدد والتكرار، والعقوبات السجنية المخففة أو
غير الرادعة، في غياب تفعيل مقتضيات العود، تعتبر من الأسباب التي تفسر ظاهرة العودة إلى الإجرام سيما عند القاصرين والراشدن
أقل من 30 سنة، وارتفاع معدل الجريمة في المغرب، وكذا، الاكتظاظ المهول الذي تعرفه المؤسسات السجنية، والتي
يأوي بعضها ضعف طاقتها الاستيعابية (السجن المحلي بالجديدة مثال على ذلك). اكتظاظ يعزى كذلك إلى كون المؤسسة السجنية باتت في ظل
"حقوق الإنسان"، عبارة عن نزل جماعي، يوفر جميع شروط الإقامة والراحة
والترفيه والتطبيب، وتنظيم الزيارات الأسرية (...). كما أصبح، وهنا يكمن الخطر
المحدق على المجتمع، مدرسة يتبادل فيها المجرمون خبراتهم في مجال الجريمة، ويصقلون
مهاراتهم الإجرامية، ويتعاطون بداخله حتى ل"الممنوعات".
لهذا، فإن عودة المجرم إلى
ارتكاب الجرم ذاته أو ارتكاب مجموعة من
الجرائم، يعني أن ثمة خللا ما، إما في السياسة الجنائية أو العقابية أو في السياسة
السجنية التي لم تحقق الردع الخاص، بعد تطبيق العقوبة المحكوم بها. ولإزالة اللبس عن
هذه القضية، كان لنا الحوار التالي مع ذ. رشيد وهابي :
*1 سؤال – إن العديد من المحكوم عليهم يعودون بعد مدة وجيزة عن مغادرتهم
أسوار السجن، إلى ارتكاب الأفعال الجرمية
ذاتها أو جرائم أخرى. ما هي في نظركم الأسباب التي تجعلهم يعودون إلى الإجرام ؟
* جواب – الجواب عن هذا
السؤال يتداخل فيه ما هو قانوني وسياسي واجتماعي. إذ من الصعب جدا أن نسنده إلى
سبب واحد ووحيد. فأغلب الجانحين الذين يعودون إلى الإجرام، قاصرون وأعمارهم دون
ال30 سنة، ينتسبون إلى طبقات مجتمعية فقيرة وهشة، ويكونون بدون عمل،ولا حرفة يتقنونها، يمكن أن تقيهم شر الارتماء في براثين الإجرام. زد على ذلك
أن المجرم حينما يدان لأول مرة، وبعد أن يعانق سماء الحرية، لا يجد جمعيات أو مؤسسات تأخذ بيده، وتحاول دمجه
في المجتمع حتى يصبح فيه عنصرا فاعلا وفعالا, كما أن السبب سياسي كذلك، على اعتبار
أن السياسة العقابية والسياسة السجنية المعتمدة في المغرب، لا يمكنها أن تفرز لنا غالبا
إلا سجينا يحن إلى العودة إلى السجن، أو مجرما بالصدفة دخل إلى السجن، وسيصبح
محترفا للإجرام، بعد معانقته ماء الحرية، بحكم احتكاكه مع مجموعة من محترفي
الإجرام. والمشكل كذلك قانوني، على اعتبار
أن مجموعة من المحكوم عليهم للمرة الثانية والثالثة، لا يتم تطبيق مسطرة العود في
حقهم. وأغلب أحكام محاكم المملكة لا تطبق هذه المسطرة، حتى لو كانت صحيفة المتهم
الماثل أمام الهيئات القضائية لدى الغرف الجنحية والجنائية، مليئة بالجرائم.
*2 سؤال – إذن غياب تطبيق مسطرة العود من طرف القضاة، يعتبر من
الأسباب التي تدفع المجرم إلى العودة إلى ارتكاب الجرائم ؟
* جواب – العود في القانون يعني أن الشخص يعود إلى ارتكاب جريمة
أو أكثر، بعد صدور حكم حائز لقوة الشيء المقضي به، أي بعد أن يصبح الحكم القضائي
نهائيا، عقب استيفائه جميع مراحل التقاضي والطعن. وفي هذه الحالة، يعتبر الشخص الجانح
في حالة عود. ما يترتب عنه تشديد العقاب على المجرم. ويختلف تغليظ العقوبة الزجرية
حسب درجة العود وطبيعة ونوعية الفعل الجرمي الذي ارتكبه الجانح : هل هو جناية أم
جنحة أم مخالفة ؟
فبالنسبة لمن سبق الحكم عليه من
أجل قضية جنائية، لا يجب البتة أن يعود إلى ارتكاب جناية، مهما طال الوقت، وإلا
اعتبر في حالة عود. أما من سبق أن حكم عليه من أجل جنحة حتى لو كانت العقوبة
موقوفة التنفيذ، فعليه أن لا يرتكب أي فعل جنحي داخل مدة 5 سنوات من ارتكاب الجنحة
الأولى، وإلا كان في حالة عود.
*3 سؤال – في نظركم لماذا لا يطبق القضاة حالة العود، رغم كونهم يعرفون
أنهم يحاكمون مجرمين عادوا إلى ارتكاب أفعال إجرامية نص صراحة القانون الجنائي
عليها وعلى عقوباتها ؟
* جواب – أعتقد أن النص القانوني المنظم للعود، وعدم تحيين وضعية
المجرمين، وتتبع ملفاتهم الأولى التي حوكموا من
أجلها، لمعرفة هل أصبحت حائزة لقوة الشيء المقضي به ، تغل أيدي قضاتنا في
تطبيق هذا الفصل. فالقاضي حتى لو حاكم شخصا يعلم جيدا أنه سبق أن حكم عليه قبل
سنتين بارتكابه جرما معينا، أو وجد في محضر الضابطة القضائية أن ملفه يتضمن مجموعة
من السوابق القضائية، لا يمكنه أن يطبق عليه حالة العود، لأن ليس لديه في الملف
ما يفيد أن هذه الأحكام السابقة الصادرة في حقه، أصبحت حائزة لقوة الشيء
المقضي، كما يلزمه بذلك الفصل 154 من قانون العقوبات المنظم لحالة العود.
*4 سؤال – في نظركم، ما الحل حتى يتمكن قضاة المحاكم بالمملكة
المغربية من تطبيق حالة العود، على من يعود إلى الإجرام ؟
* جواب – الحل يكمن في تحيين الضابطة القضائية والنيابة العامة
لبيانات جميع المحكوم عليهم، ومعرفة هل الأحكام الصادرة في مواجهتهم أصبحت حائزة
لقوة الشيء المقضي به. وفي حال محاكمة مجرم لمدة ثانية، يجب الإدلاء بالوثائق التي
تؤكد عودته للإجرام، بعد أن حكم بحكم لا مطعن فيه, وتطلب النيابة العامة تطبيق
حالة العود عليه. وأعتقد أن ما ذلك بعزيز ونحن في عصر المعلوميات الذي بنقرة زر
واحدة، يمكن أن تعرف كل شيء عن أي شخص. وعلى النيابة العمة أن تصدر أمرا بطبع هذه
البيانات التي ستكون حجة على العائدين للإجرام، حتى يعاقبوا بعقوبات العائد إلى
الإجرام، والتي تكون مشددة.
*5 سؤال – علمنا بأنه يجري الإعداد لتعديلات مهمة تخص المسطرة
الجنائية، وأن وزير العدل والحريات قدم مسودة للتعديلات المقترحة، خلال لقاء مع المحامين في مراكش. فهل ثمة تعديلات
مرتقبة في مسطرة العود ؟
* جواب – القانون
الذي طرح وزير العدل مسودته على المهتمين، يتعلق بقانون المسطرة الجنائية الذي ينظم اختصاصات الضابطة والسلطات القضائية
والمحاكمات وتنفيذ العقوبات، وهو لا ينظم مسطرة العود في القانون المغربي، التي
ينظمها القانون الجنائي، والذي ليس لحدود كتابة هذه السطور، محل حديث عن أي تعديل
مرتقب، وإنما ثمة حديث يردده الصدى، يشير
إلى أنه يمكن أن يكون ثمة تعديل، لكن ربما على المدى المتوسط أو البعيد.
ورغم ذلك، نشير إلى نظام العود المسطر في
القانون الجنائي من الأفضل، أثناء تعديل القانون
الجنائي، تعديله والتفريق فيه بين العود البسيط لمرة واحدة، والذي يمكن أن
تكون عقوبته مخففة، والعود المتكرر للإجرام لأكثر من مرة، والذي يجب أن تكون عقوبته حتما مشددة. بل يجب
التنصيص على أن يتم إيداع العائد للإجرام بصفة متكررة، في إحدى مؤسسات
العمل التي تكون تابعة للسجن، وكذلك
اعتبار العود في المخالفات والجنح التأديبية والضبطية، مانعا من موانع التمتع
بظروف التخفيف، حتى لا تقتصر، حسب نصوص القانون، على الجنايات، مع دعوتنا لقضاتنا إلى تفعيل مقتضيات الفصل 58 من القانون الجنائي،
التي تنص على أنه إذا كان المحكوم عليه حاضرا لجلسة المحاكمة، تعين على القاضي
الرئيس، بمجرد النطق بالحكم بإيقاف التنفيذ، أن ينذره (المحكوم عليه) بأنه إذا حكم
عليه مرة أخرى، في الأحوال المبينة في الفصل 56، فستنفذ عليه فعلا هذه العقوبة، ناهيك
عن العقوبة التي قد يحكم بها عليه فيما بعد، دون أي إدماج. كما أنه سيتعرض
للعقوبات المشددة بموجب حالة العود. مع الإشارة إلى ضرورة تضمين هذا
الإنذار في منطوق الحكم، إذا كان ثمة تعديل على العود مستقبلا. فقد يكون مفعول تضمينه ذلك في الحكم الذي يقرأه المتهم ويحتفظ به، أفضل من
النطق به في جلسة قد لا يحضرها المتهم .
-