تتناول القصة القصيرة
"المغفلة" لأنطون تشيخوف كيف يمكن للضعف والخضوع أن يتحولا إلى أدوات
بيد المستغلين لممارسة المزيد من الطغيان. فشخصية الخادمة "يوليا" ليست
فقط ضحية لاستغلال رب العمل، بل ضحية لفكرة راسخة تجعلها تقبل بواقعها دون مقاومة،
نفس الفكرة التي تتكرر في مجتمعات بأكملها، حيث يُلقَّن الفقراء أن القناعة والزهد
هما الفضيلتان الأعظم، حتى لو كانتا على حساب كرامتهم وحقوقهم، دون حتى التفكير السؤال:
هل الفقر مجرد حالة اقتصادية، أم أنه خطيئة اجتماعية تُرتكب بحق الإنسان؟ الأمر
الذي تنفيه أم دوستويفسكي في "مذلون مهانون"، بقولها: "إن الفقر
ليس خطيئة"، لكنه يعترف في "مذكرات القبو"، بأنه يشعر بالخجل من
فقره أكثر من أي شيء آخر، حتى أكثر من السرقة، رغم أن السرقة عمل قبيح أخلاقياً.
التناقض الذي يعكس حقيقة أن الفقر، الذي ةإن لم يكن خطيئة دينية، فإنه جريمة
اجتماعية تُرتكب بحق الإنسان في مجتمعات، يسهم فيها الخطاب الديني في تكريس القبول
بالفقر كحالة طبيعية بل ومستحبة رغم أنه يترك الإنسان بلا خيارات كريمة للحياة.
حيث لا يتوقف رجال الدين عن نصح المسلمين بالزهد والقناعة كوسيلة لدخول الجنة،
ويكررون أن "الفقر ليس خطيئة"، لكنهم يتناسون أن الفقر ليس مجرد نقص في
المال، بل حرمان من الكرامة والاختيارات والفرص. والأخطر من ذلك، أن هذه الرسالة
لا توجَّه إلى الأغنياء ليحسنوا إلى الفقراء، بل إلى الفقراء أنفسهم ليقبلوا بلا
تدمر من أوضاعهم ، التي يستغلها بعض الساسة ورجال الدين في ترسيخ سلطة طبقية، حيث
يصبح الفقر قدرًا محتومًا لا يُناقش، بينما تُعطى الثروة لمن "اختارهم
الله"، وفقًا لمنطق مغلوط. وهنا تكمن الإشكالية: هل الإسلام يدعو حقًا إلى
القبول بالفقر؟ أم أنه في ميزان الإسلام عقاب و ابتلاء؟ أم أنه يشدد على العدالة
الاجتماعية ويؤكد على التكافل الاجتماعي، ويدعو إلى رعاية الفقراء وليس إلى
إقناعهم بأن فقرهم "نعمة". فالزكاة والصدقات ليست مجرد أعمال تطوعية، بل
هي واجب على المجتمع وأغنيائه لضمان الحد الأدنى من الكرامة للجميع. ومع ذلك، نجد
أن بعض المفسرين يركزون على فكرة الصبر على الفقر، متجاهلين أن الفقر المدقع يولد
الجهل، المرض، والظلم،.
فالفقر في حد ذاته ليس فضيلة، والقبول
به أمر يت، ناقض مع مقاصد الشريعة في حفظ النفس والعقل والمال ولا يمكن أن يكون
طريقًا إلى الجنة إذا كان ناتجًا عن ظلم اجتماعي أو استغلال. بل إن النبي محمد (ﷺ)
استعاذ بالله من الفقر قائلاً: "اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر"،
مما يوضح أن الفقر ليس قدرًا مقدسًا، بل محنة ينبغي السعي إلى رفعها.
إذا كان الفقر ليس خطيئة، فلماذا يُنظر
إلى الفقراء بازدراء؟ ولماذا يشعر الفقير بالخجل أكثر من شعوره بالظلم؟ الحقيقة أن
الفقر يصبح خطيئة حين يُفرض على الإنسان، حين يُستخدم كأداة للقمع، وحين يُبرَّر
دينيًا لتكريس الطبقية. لا يمكن للمجتمعات أن تتطور طالما ظل الفقراء صامتين،
مقنعين أنفسهم بأن حصتهم القليلة من الحياة هي كل ما يستحقونه.
كما في قصة تشيخوف، حيث الصمت عن الظلم
أدى إلى تفشيه، فإن السكوت عن استغلال الفقراء لا يجعل الأقوياء أكثر رأفة، بل
يمنحهم شرعية أكبر للهيمنة. الحل لا يكمن في قبول الفقر على أنه قدر، بل في السعي
لتغييره عبر الوعي، التعليم، والعدالة الاجتماعية. فالإيمان لحقيقي ليس في تمجيد
الفقر، بل في العمل على القضاء عليه.