عبدالإله الوزاني التهامي
إن القيم التي تحلى بها سيدي التهامي
الوزاني الموصوف ب"قلب الزاوية"، جعلته يقرر دون تردد، أن "على
المريد أن يكون مع شيخه كالميت بين يدي غاسله"، لينتقل بدافع ذلك نقلة عدت
خارقة، كما يحكي، "طفرة واحدة من باب الحيرة إلى راحة الاستسلام"، ولم
أستطع -ككاتب ومحلل- تفكيك طلاسم هذه الحالة نظرا لتعقدها ونظرا للتجربة غير
المسبوقة التي نعالجها، وبالتالي لا يمكن التعليق عليها أو الغوص في أسرارها،
مكتفيا بالإشارة إلى أن هذه الحالة هي نتيجة عاملين أساسيين لابد منهما لنحصل على
نتيجة مرضية في ميدان التصوف، أولاهما: عامل الرغبة والصدق المتصف بهما المريد، ثم
عامل آخر على نفس الدرجة من الأهمية،
يتعلق بقدرة الشيخ على الاستقطاب والإدماج والتطويع، ومن ثم التربية والتوجيه.
وهذا لا يتم إلا إذا كان الشيخ مركز
إشعاع روحي نوراني فياض لأن الكأس لا يرشح إلا بما فيه.
لم يصل سيدي التهامي إلى ما وصل إليه
بممارسته لأنواع الرياضات والمجاهدات وفق تعاليم الشيخ ونصائحه فقط، بل ألزم نفسه
على الدخول إلى الخلوة، لا يرى فيها نور الشمس ولا يشم فيها هواء الطبيعة، معرضا
عن الأكل، ناسيا مطالب ذاته عليه من أنواع الشهوات والملذات.
بهذا وصل إلى درجة فريدة ذاق فيها طعم
الأسرار وعايش عالم الأنوار بفضل مجاهدته لنزوات وشهوات النفس الحاجبة للعوالم
السامية.
يقول المتصوف سيدي التهامي، عن أحواله
ومشاهداته في هذه الخلوة: ... فإذا بنور ألطف من نور القمر قد غمر علي المكان،
فأصبحت أشاهد الأشياء كلها، وربما شاهدت ما خلف الجدران وسمعت أصواتا وكلمت رجالات
وكلموني، وسواء أغلقت عيني أو فتحتها، وسواء كانت أذني صماء أو سامعة، فهذه الحواس
أصبحت تؤدي مهمتها دون أن تحول بينها حوائل".
أمام ما حدث للتهامي الوزاني، ما علينا
إلا التسليم -دون تحليل- بخوارق العادات وبما يتجاوز العقل من إدراكات، أو حسب
التعبير الخلدوني :"كشف حجاب الحس والاطلاع على عوالم من أمر الله، ليس لصاحب
الحس إدراك شيء منها"، غير أن ما نرمي إليه هنا ليس الخوض في طبيعة الكرامات
التي أوردها الوزاني، وإنما قصدنا التعرف أكثر
على ما وصل إليه هذا المريد المراد بعدما مر به من منعرجات مثيرة.
ويواصل المترجم له حكايته عن مشاهداته
واصفا: "أما شعوري في الخلوة فإنني بعد ثلاث أو أربع ساعات أحس بأنني أصبحت
رجلا آخر وفي عالم آخر"، ويواصل بالقول: "وكنت أرى نفسي بين جملة
الحاضرين، فإذا كان الناس يضربون المثل بأن العين لا ترى نفسها، فإنني كنت أرى
عيني بعيني، كأنما أنظر في مرآة مجلوة صقلية، ولم أكن بحالم ولا بنائم ولا بساه،
ولكني شاعر بكل شيء، ولم يكن ذلك العالم ولا أولئك الملأ ممن يدهشني شأنهم، بل
وجدت نفسي كأنني خلقت في ذلك العالم من أول يوم فتحت فيه عيني على نور الشمس.
وعبثا كنت أحاول أن أضبط نفسي لأعود إلى ما كنت عليه قبل الرياضة والخلوة، على
أنني لم أكن في حاجة إلى ذلك، فإنني في عالم لذيذ لا شر فيه ولا كلفة، لا يحتاج
إلى طعام أو شراب، وإنما هو حالة لم أعرفها في شيء من المواطن إلا في قطع الموسيقى
والسماع الصوفي التي ينسى الإنسان فيها أنه موجود، وينسى اللذة والألم، ويصبح صوتا
من تلك الأصوات المرتبة التي تؤدي واجبها بانتظام، لا تنافر فيها، كأنما تؤديه
الطبيعة نفسها، ولم أشعر بالزمن ولا بالمكان، فلا أدري ألحظة كانت أم دهرا، أم كنت
في الدنيا أم في الآخرة، إلا أنني مع هذا كله صحيح الإدراك، سليم التفكير، لا أشعر
بتنقل ولا خوف ولا حيرة".
ويعلق عبدالكريم غلاب على هذه الكرامات
الغريبة بقوله: "هذه الشفافية النفسية لا يمكن أن يعبر عنها إلا قلم موهوب،
كان يرصد نفسه، ويعيش في الذاكرة الواعية وهو يكتب، وتبقى "الزاوية"
-يضيف غلاب- أروع ما أنتج"، في إشارة إلى ما يحتويه كتاب التهامي الوزاني من
حكايات مشوقة تعانق ما كان يعيشه الأخير من خوارق غيبية. يتبع..