adsense

/www.alqalamlhor.com

2025/01/01 - 11:19 ص


-عبدالإله الوزاني التهامي

إن سيرة مولاي عبدالسلام ابن مشيش جامعة للاستثناءات في مميزات الشخصية بشكل غير معتاد، حيث وفضلا عن تمكنه من العلوم الشرعية والعلوم السلوكية، فإن نجمه لمع في دفاعه عن الأوطان ومحاربته للعدو، وفق ما تناقلته مصادر تاريخية كثيرة.

ولعل قتله واشتشهاده على يد النصارى الإسبان أكبر دليل على عدم رفعه للراية البيضاء خوفا واستسلاما، حيث تمت تلك الجريمة بعد رجوعه من معارك جهادية  شديدة  بسبتة.

لقد واجه المستعمر الإسباني بشجاعة ودعا إلى الجهاد ضدها، معززا بجيش كبير من المسلمين مغاربة في الأصل وإسبانا أسلموا وحسن إسلامهم.

لم يرقد مولانا عبدالسلام بن مشيش في جمود جولات ومجالس مجاهدة النفس ونشر الدعوة وإيقاف موجات الكفر والبدع والشعودة ومخالفة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهميتها، بل بادر بكليته للارتماء في خضم ساحات القتال لا يخاف السيوف ولا يختفي عن ملاقاة العدو.

بدأ ذلك عندما بلغه خبر قيام الشيطان الأخبث لتلك الحقبة من الزمن ابن أبي الطواجن بادعاء النبوة حيث أثر هذا الكذاب في الناس لدرجة أن تبعه منهم العدد الكثير من قبائل شتى شمال المغرب خوفا أو طمعا مخدوعين، فعاث فسادا في العباد والبلاد، واستحل الأعراض والأغراض دون أن يردعه أحد أو يقضي على دعوته.

قام مولانا عبدالسلام بن مشيش بحملات دعوية واسعة مبنية على العلم بين القبائل يحذر الخلائق وينبههم لهذا الخطر الداهم الذي يقوده الفتان أبي الطراجن، وبلغت دعوة الشيخ سبتة وإسبانيا، وهذا ما جلب عليه ردود فعل المسيحيين والنصارى الماكرة لأن أبي الطواجن عميلهم وواجهتهم في بلاد الإسلام، فدعموا عمليهم مدعي النبوة بكل ما يلزم من رجال وعتاد لترصد الشيخ وأنصاره من جبالة شمال البلاد.

فدبروا مؤامرات تلو أخرى لكنهم لم يفلحوا، إلى أن بالغت فرقة من المقربين لأبي الطواجن تتكون من عشرة أفراد في تتبع آثار الشيخ الشريف، واعترضت طريقه (بين عامي 622ه و626ه) وهو في اتجاه مصلاه بعد أن أسبغ الوضوء بعين "البركة".

فأجهزوا عليه قتلا على مقربة من هذه العين المشهورة الآن بعين البركة، واجتمع عليه أنصاره ومحبوه يتقدمهم شيخه سيدي أحمد أقطران (العسلاني) ليغسله ويكفنه.

والراجح أن استشهاده كان ما بين العامين المذكورين للحسم في الاختلاف، بينما كان يهم بالصلاة على صخرة تعرف ب"الزطمة دمولاي عبدالسلام"، أعلى عين البركة.

على هذه الصورة ختم الله المشوار السلوكي والجهادي لقطب دائرة المحققين أستاذ مشايخ أهل المشرق والمغرب وسند الواصلين إلى أنجح المطالب، قطب الوجود وبقية أهل الشهود والغوث الجامع لأسرار المعاني، غوث الأمة وسراج الله، صاحب العلوم الدينية والمعارف الربانية الجامع بين علم الشريعة والحقيقة.

نعم هكذا استشهد مولانا عبدالسلام بن مشيش، صاحب الدرر البهية، القطب الأكبر والعلم الأشهر والطود الأظهر العالي السنام، البدر الطالع الواضح والبرهان الغني عن التعريف والبيان، المشتهر في الدنيا قدره في زمانه وإلى يوم الناس هذا.

وكما جاء في "الشيخ المولى عبدالسلام بن مشيش قطب المغرب الأقصى"، سرى سر الشيخ  في الآفاق، في إبانه وبعد استشهاده، وسارت بمناقبه الركبان، قصده للانتفاع به الخاص والعام، بما جمع الله فيه من خيرات الشرفين الروحي والطيني.

قال عنه ابن الكوهن -من بين من قالوا فيه كلمة الحق- كان فضلا على علو همته وحاله عالما فاضلا جليل القدر، لا ينحرف عن جادة الشريعة قيد شعرة، متحمسا للدين عاملا على نشر فضائله، وهو رجل من آل البيت يتصل نسبه يقينا بسيدنا الحسن بن سيدنا علي وفاطمة الزهراء رضي الله عنهما بنت سيد الخلق وحبيب الحق محمد صلى الله عليه وآله وصحبه ومن تبعه بإحسان.

يقول عنه تلميذه الأوحد أبي الحسن الشاذلي: سلك شيخي "الطريق إلى الله منذ أن كان عمره سبع سنين وبعد أن سار في العبادة أشواطا وبلغ مبلغ الفتيان ظهر له من الكشف أمثال الجبال وهو مازال يعد بواكير شبابه ثم نزع إلى السياحة وأقام فيها ستة عشرة سنة كاملة، سياحة تعبد وتأمل وتفكر.

وقد ذكر عنه في الطبقات الشاذلية وفي غيرها من المصادر والمراجع الكثيرة من أسراره وكراماته وبطولاته.

منها، أنه لما كان صبيا رضيعا، إذا أهل شهر الصيام يمتنع عن الرضاع من ثدي أمه إلى حين آذان المغرب، وغير ذلك كثير، مما لا يصدقه إلا من يؤمن بالله حق الإيمان ومن تذوق طعم عوالم أهل الله والعارفين بالله، لما فيها من خوارق العادات وبواهر العلامات.

بدأ الشيخ مولاي عبدالسلام بن مشيش بداية صحيحة فأشرقت نهايتها بنيل الشهادة في ساحة الدفاع عن الدين والوطن، وباستشهاده لم تطو سيرته بل بدأت من جديد وهذه المرة دون انقطاع على يد تلميذه الوحيد سيدنا أبي الحسن الشاذلي ذائع الصيت غربا وشرقا شمالا وجنوبا.

*يتبع في الحلقة القادمة: علاقة أبي الحسن الشاذلي بشيخه مولانا عبد السلام بن مشيش وتوسع وانتشار دعوة الأخير على يد الأول، نفعنا الله بأنوارهما، ورضي الله عنهما ورحمهما الله برحمته الواسعة.