بقلم الأستاذ
حميد طولست
الوعي بين النعمة والنقمة !
يبدو أن المثل
المغربي يحمل تناقضات عميقة حول كون الوعي و الإدراك العميق ، الذي عبر عنه رجل
الشارع بـ"الفهم" ما هو إلا عبء يحرق بمخاوف سعادة الإنسان، مما يعني
بالمقابل أن الغفلة هي مفتاح الراحة ، الفكرة التي فسحت المجال مشرعا أمام العديدة
من الأسئلة التي ظل الأدباء والعلماء والمفكرون، على اختلاف أزمانهم وأماكنهم
،وسيستمرون في التعبير عن رؤاهم في رحلة البحث عن الإجابة عن تلك التساؤلات
المحيرة أمثال : هل هو ونعمة تهبه القدرة على الفهم والتحليل، وشعلة تنير دربه
ليعيش بسعادة مع وعيه؟ أم هو عبء ثقيل يكبّل الإنسان بمسؤوليات وهموم تفوق طاقته،
وغيرها من الأسئلة التي راودت العقل
الإنساني منذ الأزل عن الوعي وما عكس من إشكالية عميقة ،...
اجتمع أدباء ومفكرو حقب زمنية متباعدة، وثقافات
مختلفة ومتنوعة ، على فكرة أنه "الوعي"، رغم ضرورته، يقود إلى الشقاء،
وكأنه أداة يعاقَب بها الإنسان ، المعنى نفسه الذي رامه المثل المغربي ، هو الذي
عبّر عنه المتنبي، في بيته الشهير : ذوالعقل يشقى في النعيم بعقله/
/وأخو الجهالة
في الشقاوة ينعم."
الذي صوّر فيه
العقل الواعي كقيد يحرم صاحبه من متعة الحياة، بينما يعيش العقل الغفلة في راحة
وسلامً رغم شقاء حاله.
والمعنى ذاته الذي قصده دوستويفسكي رغم بعد
المسافة الزمكنيه ، في إحدى أشهر مقولاته ، حيث يقول: بأن الوعي مرضٌ نفسي يُثقل
على صاحبه بما يكشف له من حقائق مؤلمة عن ذاته والعالم، تجعله يتعمق في تحليل كل
شيء، حتى البسيط من الأمور، ما يورثه الإحساس الدائم بالعجز والقهر الذي يدفعه
للعيش في صراع دائم بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون.
وكما ذهب
كافكا إلى تصوير الفكرة ذاتها على أنها أشد خطورة من المخدرات ، حيث يرى أن
الإدراك المكثف يجعل الإنسان أسيرًا لأفكاره، يعي كل تفصيل محيط به، حتى التفاصيل
المزعجة والمؤلمة، مما يضعه في مواجهة دائمة مع معاناة لا تنتهي وذلك في
قوله:"إذا كان هناك ما هو أشد خطورة من الإفراط في المخدرات، فمن دون شك هو
الإفراط في الوعي."
وحتى إذا كان
ابن خلدون لم يتطرق لفكرة كون "الوعي مصدر معاناة" ، فإنه أشار في
مقدمته الشهيرة إلى فكرة مشابهة يشير من خلالها إلى أن المعرفة والوعي لا يأتيان
دون ثمن، فكأنما يحصل الإنسان على هدية ثمينة، لكنه يدفع مقابلها من نصيبه من
السعادة الحياتية ، وذلك في قوله: "اشتهر بين الناس أن الكامل في المعرفة
محروم من الحظ، وأنه قد حوسب بما رزق من المعرفة، واقتطع له ذلك من الحظ."
أما بالنسبة
لجان بول لسارتر، فالوعي عنده هو ضمير المثقف الذي وصفه بـ"الضمير
الشقي"، الذي يقوم بمهامٍ لم يكلفه بها أحد ، ويفعلها من باب المسؤولية
الأخلاقية ومن منطلق الضمير الحيّ، الذي
يجعله لا يقتصر على الإدراك فقط ، بل ويتدخل في أمور إذ يشعر وقضايا أوسع
ويحاول إصلاحها ، رغم أنه لم يُطلب منه ذلك التدخل، الذي يجعله يعيش حالة من
الشقاء الدائم ، لشعوره بأنه مسؤول عن قضايا أكبر من إمكانياته.
وأختم هذه الخاطرة بالمثل الإيطالي القريب من فكرة المثل المغربي "ما في الهم غير الي يفهم" والقائل :"من نظر إلى الناس بعين العلم مقتهم؛ ومن نظر إليهم بعين الحقيقة عذرهم "