بقلم : عبد القادر العفسي
هذا المقال محض خيال أدبي، لا يمت
للواقع بصلة، وأي تشابه بين شخصياته أو أحداثه وأي وقائع حقيقية هو محض صدفة غير
مقصودة! تمت صياغة المحتوى بأسلوب إبداعي بحت ولا يعكس آراء أو مواقف محددة، نرجو
قراءة النص في إطاره الخيالي دون ربطه بالواقع !
في زوايا العالم المظلمة هناك لحظات في
تاريخ المدن تُروى كحكايات هزلية خالية من المنطق، وحين يتولى التافهون السلطة،
تتحول هذه اللحظات إلى كوابيس... حكايتي اليوم ليست مجرد نقد لرئيس بلدية بلا
كفاءة ولا رؤية، بل حيث تتراكم التناقضات وتُصنع القرارات في دهاليز خفية، تظهر
شخصيات تتحدى كل منطق، شخصيات بلا ملامح ولا جذور، تشبه الفراغ أكثر مما تشبه
البشر، لكنها بطريقة ما تنجح في الجلوس على كراسي السلطة، وهذا هو الحال مع رئيس
البلدية الذي لا يملك من صفات القيادة سوى قدرته الخارقة على التلون والانحناء حتى
يتقن فن التسلّق .
حين قررت السلطة تعيين هذا الرجل على
رأس البلدية، لم يكن ذلك نتيجة مؤهلاته، بل لقدرته الفريدة على أن يكون مجرد أداة
! أداة بلا روح، بلا موقف، بلا شيء، إنه نموذج حي لما وصفه الفيلسوف "إتيان
دو لا بويسي" بـ"العبودية الطوعية"، حيث يختار التافه أن يكون
خادمًا لسلطة أقوى منه، لأنها تمنحه الوهم بأنه مهم .
ماضيه الذي تلوث بمغامرات مع جمعيات
أجنبية مجهولة الأهداف لم يكن صدفة، لقد كان ذلك الفصل الأول من رواية شخصٍ يبيع
أي شيء لمن يدفع أكثر ،وهنا تكمن المفارقة: لقد نجح، لا لأنه يمتلك ذكاءً فذًا أو
رؤية مستقبلية، بل لأنه يعرف جيدًا كيف يلعب لعبة التملق والانبطاح!
إنها محصلة حين تتولى السلطة شخصًا
كهذا، تتجاوز المدينة أزماتها المعتادة لتدخل في حقبة عبثية، حيث تُدار الأمور
كأنها لعبة قمار في يد مقامر فاشل، لا يُتقن سوى الخسارة لمن حوله والمكاسب لنفسه
.
سيرة ذاتية بلا شرف !
ما يُثير السخرية أن هذا الرجل، الذي
قُدّر له أن يصبح رئيسًا، كان بالأمس مجرد ناشط في جمعيات أجنبية غامضة، يدير فيها
أعمالًا مشبوهة، يتقن فيها المساومة والبيع بلا أي رادع أخلاقي، لم يكن ذلك نشاطًا
اجتماعيًا كما يُقال، بل كان تدريبًا على فن الاستغلال، حيث تعلم كيف يبيع المبادئ
مقابل مصالح آنية.
لكن المثير للدهشة ليس تاريخه، بل
الطريق الذي سلكه للوصول إلى المنصب، لقد عرف كيف يضع نفسه في خدمة السلطة، كيف
يتحدث بما يُرضي الأقوياء، وكيف يصبح ظلًا طيّعًا لرئيس سلطة أراد أن يخلق من يده
اليمنى دمية متحركة ،لم ير هذا "الرئيس" في مدينته أكثر من مشروع تجاري،
المدينة التي كان من المفترض أن تكون فضاءً للعيش الكريم، تحولت في نظره إلى كومة
من الأراضي تُقسم وتُباع بأرخص الأثمان، يسرق الحاضر ويقتل المستقبل، لأن من يُعطى
السلطة بلا رقابة أو محاسبة، لن يرى في المنصب إلا فرصة للإثراء الشخصي .
المدينة كسلعة للبيع !
بمجرد أن استوى على كرسي البلدية، بدأ
يُعيد تشكيل المدينة كأنها غنيمة حرب لا قوانين تحكمه، ولا ضمير يردعه، كل صفقة
توقيعها بثمن، وكل مشروع له نصيب... الأراضي التي كانت يومًا متنفسًا للسكان أصبحت
مجرد رقم على شيك، تُباع بلا حرج لتُبنى عليها أبراج إسمنتية، تتناثر على جثث
الحدائق الخضراء التي كانت تسكن المدينة ذات يوم .
لم يكتفِ بهذا، بل أدار مكتبه كأنه
مركز عمليات لعصابة منظمة، هناك، تحت مظلة البلدية، اجتمع متعاطو المخدرات وسماسرة
الصفقات، ليسوا موظفين، بل شركاء في جريمة جماعية تُرتكب بحق المدينة وسكانها ،
لقد تحول المكتب البلدي إلى نسخة مصغرة من عصابة إجرامية، حيث تحل الفتوة محل
القانون، ويصبح المال هو اللغة الوحيدة المفهومة.. هنا، تتجلى صورة مأساوية، حيث
يصبح القبح هو القاعدة، والنزاهة هي الاستثناء الذي يُسحق بلا رحمة .
هندسة الفساد: كيف تُبنى فيلا من عرق
البسطاء ؟
وفي زاوية بعيدة من المدينة، تتوسط
فيلا فخمة على مشهد الخراب، فيلا تُشيد بالحجارة التي سرقها من أحلام البسطاء،
تُزيَّن بعرق العمال الذين خدعهم، وتُحاط بأسوار من الفساد، إنها ليست مجرد منزل
فاخر، بل رمز حيّ لانهيار القيم، وتحوّل السلطة من مسؤولية إلى غنيمة .
الفيلسوف الإيطالي "أنطونيو
غرامشي" قال ذات مرة : "الأزمة تحدث عندما يموت القديم، ولا يستطيع
الجديد أن يولد" في هذه اللحظة، تملأ الساحة كائنات تافهة بلا جوهر، لأنها
الوحيدة القادرة على البقاء في فراغ كهذا، هذا الكائن لم يأتِ من فراغ، بل هو ابن
شرعي لبيئة سياسية واجتماعية قائمة على المحسوبية والتواطؤ،بيئة الذي يُقصي على
الكفاءات، ويُكافئ الانبطاح، هو الذي أتى به، وهو الذي سمح له بأن يُدمر كل ما
تبقى من أمل في مدينته و أن يشرعن فيلته الجديدة الفارهة العامرة !
حين يعض الكلب اليد التي أطعمتْه !
لكن الفساد لا يعرف الوفاء، وهنا تتخذ
القصة منعطفًا كوميديًا، حين شعر رئيس السلطة الذي صنعه بأن أيامه في المنصب
معدودة و الاشارات بدأت في الانسكاب وأن قريبه الماسك بتلابيب الأمور تهدمت كل
جلاميده الرملية لإبقائه على رأس ساكنة تم استلابها ! بدأ التافه الذي جعله رئيسًا
للبلدية يُخطط للانقلاب عليه، وكعادة الجبناء! لم يجرؤ على المواجهة المباشرة، بل
استخدم أدواته: متعاطي مخدرات و المؤثرات العقلية..! ومجموعة من الخارجين عن
القانون لتحطيم صورة من كان يومًا ولي نعمته .
في لحظة واحدة، تحول التابع إلى عدو،
والسلطة إلى ساحة تصفية حسابات بين أشباه رجال، لا يُجيدون سوى التآمر والخيانة ،
إنها السياسة في صورتها الأكثر ابتذالًا: لعبة منافع قصيرة المدى، لا مكان فيها
للقيم أو المبادئ .
فلسفة التافهين في الحكم !
في هذه القصة، يتجلى المشهد
الكوميدي-التراجيدي للسياسة حين تُدار بواسطة التافهين، إن هذا الرئيس ليس
استثناءً، بل نموذج مثالي لما يحدث حين تصبح السلطة مكافأة للانتهازيين، إنه نتاج
نظام كامل يُقصي الكفاءات، ويُكافئ الولاء الأعمى على حساب المبادئ !
الفيلسوف السلوفيني "سلافوي
جيجيك" يقول إن التافهين لا يخشون مواجهة النظام، لأنهم هم النظام.. هذا
الكائن لا يقف خارج السلطة، بل هو جزء لا يتجزأ من منظومة تتيح للفساد أن يكون
قاعدة، وللنزاهة أن تكون استثناءً يُعاقب صاحبه .
المدينة كضحية صامتة !
لكن وسط كل هذا العبث، هناك طرف واحد
يدفع الثمن: المدينة! المدينة التي أُخذت رهينة بين أيدي لصوص يُديرون شؤونها
كأنها شركة مفلسة.. سكانها، الذين يرون أحلامهم تُباع قطعة قطعة، يقفون عاجزين
أمام مشهد الانهيار .
كيف نكسر الحلقة ؟
قد تبدو هذه الحكاية مأساوية، لكنها في
جوهرها دعوة للتفكير فعلينا أن نعيد النظر في كل شيء: من طريقة اختيار الأفراد،
إلى دور المواطن في الرقابة والمحاسبة
، بل عن نظام كامل يسمح بوجودهكذا
الكائنات، السؤال الأهم هو: هل نملك الشجاعة لكسر هذه الحلقة؟ هل يمكننا استعادة
السلطة من أيدي التافهين، وإعادة الشمس كي تشرق من جديد؟ أم أننا سنظل نضحك على
أنفسنا بينما تنهار مدننا تحت أقدام الطغاة الصغار؟ .
لأن المدن، كما البشر، لها كرامة، وإذا
سمحنا بأن تُسلب هذه الكرامة، فسنكون جميعًا شركاء في الجريمة