بعدما تقرر
نقلي الى جناح الطب الباطني من أجل مواصلة إجراءات الكشف الطبي، وجدت نفسي نزيلة
بغرفة تتسع لأربعة أشخاص، تنوعت عللهم وتفاوتت شدة آلامهم. منهم من " قضى
نحبه" رحمهم الله، " ومنهم من ينتظر".
بهذا الجناح،
كان اللقاء مع الدكتورة بثينة، سيدة في مقتبل العمر، يفيض قلبها إنسانية ولطفا. لا
يسعني، وأنا أستحضر عطفها عليَّ واهتمامها بحالتي، إلا أن أوجه لها موفور الشكر
والتقدير. كانت البداية بأخذ عينات من دمي، من أجل إخضاعها، من جديد لكل الفحوصات
اللازمة، على أمل الوصول إلى تشخيص مكمن الداء الساكن بدواخلي.
كانت معاناتي تزداد، والآلام الشديدة تتضاعف،
غزت رأسي تماما، وتغلغلت بين ثنايا قفصي الصدري. فضلا عن ذلك، كان الخضوع للتحاليل
والأشعة يزيد ذاتي العليلة انهاكا وتعبا. والغريب، أن كل هذه التحاليل والكشوفات
بالأشعة، كانت نتائجها ممتازة. استمر الحال على ما هو عليه إلى أن تقرر تدقيق
التحليل والكشف على عينة من الدم، أخذت من وسط القفص الصدري. وهنا كانت الصدمة.
للأسف، من خلال التحاليل الدقيقة التي أجريت على هذه العينة، تبين أني مصابة بورم
سرطاني خطير.
لا بد من أن أفتح هنا قوسا لأشير إلى أول طبيب،
كان قد قادته فطنته وحدسه وخبرته إلى
الانتباه إلى أن هناك مشكل ما في جهاز المناعة لدي، جهاز افترض أنه صار يتخبط،
يدافع ويهاجم في الوقت نفسه. لم كان في
البداية قادرة على فهم مضامين استنتاجاته، ولم أعرها أي اهتمام. كنت ما أزال أعتقد
أني أعاني من الروماتزم فقط. لم يكن هذا
الطبيب، الطيب، الفائض بالحس الإنساني، سوى الدكتور خالد الزياني. من هذا المنبر،
أتوجه له بخالص الشكر وعظيم الامتنان. كان
لي نعم الطبيب ونعم السند. كان وما يزال صديقا لكل العائلة.
أغلق القوس،
وأعود إلى مقامي بجناح الطب الباطني. في البداية، أبقت الدكتورة بثنية أقشور الأمر
سرا، ولم تخبرني، كانت، رأفة بي، تنتظر
اللحظة المواتية. لاحظت عدم ترددها على الغرفة حيث أرقد على مدى يومين. لم يكن ذلك
من عادتها. انتابني الشك، واجتاح كياني الشعور بالقلق والخوف. وعلى الرغم من ذلك،
هزمت إحساسي بالخوف من مواجهتها ومواجهة الحقيقة التي ربما تتردد الدكتورة في
الكشف عنها. استجمعت قواي المتعبة، وتحديتُ نار الآلام المتقدة بين أرجاء كياني
العليل. تشجعت وقصدت مكتبها، متثاقلة الخطى. طرقت الباب، وبمجرد ما دخلت، بادرت
للسؤال عن حقيقة ما أعانيه.
لم يكن من
الصعب عليَّ، من خلال نظرات الدكتورة إليَّ، من خلال نبرات صوتها، من خلال المجهود
الذي كانت تبذله، من أجل انتقاء الكلمات المناسبة لنقل الخبر الصاعق، أن أدرك أن
الخطب جلل، وأن القادم أسوأ.
لم تجد
الدكتورة بدا من كشف الحقيقة المرة. فبعد أن دعتني إلى ضرورة التحلي بالصبر وتقوية
الاعتقاد في القضاء، خيره وشره، والاحتفاظ بالأمل في تجاوز هذه المحنة، كشفت لي عن
طبيعة هذا الورم الخبيث، الذي يتميز، مثله مثل العديد من الناس، ويا العجب! بالمكر
والمناورة والتحايل.
شُلَّتْ قدرتي على التفكير، وافتقدت القدرة على
الكلام. داهمت مقلتيَّ دموع صارت تنهمر
كالسيل الجارف. غادرت مكتب الدكتورة، دون أن أنبس بكلمة، ودون أن أدري إلى أين
الملجأ. استبدت بكياني هواجس حارقة، وتساؤلات مقلقة، ومشاعر من اليأس والإحباط.
ومع ذلك، وأنا أحترق في هذا الخضم من القلق والتوتر، سرت وأنا اكتم ألمي وغضبي.
ورثيت لحالي وأنا أسائل نفسي: كيف صبرت على كل تلك الآلام الفظيعة التي كنت أحسبها
مجرد أعراض للروماتيزم. أما الحقيقة، حقيقة ماكنت بسببه أعاني ما عانيت، فيعود إلى
ورم سرطاني له من الصفات والأعراض، ما يميزه عن باقي السرطانات كلها. وهو السرطان
الذي سيكون موضوع المقالة القادمة، وقاكم الله من كل بلاء.
يتبع ..