بقلم الأستاذ
حميد طولست
الصدق خلق
عظيم ، ومن أهم الأخلاق والصفات التي حث عليها الإسلام، والتي بها عرف النبي عليه
الصلاة والسلام بين عرب مكة حتى سموه "بالصادق الأمين" وبها وصف الله
الانبياء والمرسلون (عليهم السلام) وبها أثنى سبحانه عليهم ، حين نعثهم بالصدقين
في قوله تعالى : "وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ
صِدِّيقًا نَبِيًّا" ، و"اذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ
كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا" ، و"اذْكُرْ فِي
الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا"؛ وقد كان صدق المؤمن
واضحا ، يتحرى الصدق في أقواله وأفعاله تشبها بأصدق الخلق، وأبرهم ، وأكملهم
إيماناً، رسول الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي سماه قومه بـ"الأمين محمد" ، ويقابل خلقة الصدق
هذه وهديها إلى الصلاح والفلاح ، والتي قال فيها "إن الصدق يهدي إلى البر وإن
البر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا" ـ
تقابلها صفة "الكذب" التي قال فيها صلى الله عليه وسلم: " إن الكذب
يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار"، لأنه من أسوء وأخس الصفات الممقوثة التي
حرم على المسلم الاتصاف بها ، ورفضها الذوق
السليم، ودمتها الشيم الكريمة، واستصغرتها الهمم العالية، ولم يقترفها إلا
الظالمون بدليل قوله سبحانه: "إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله
وأولئك هم الكاذبون" النحل / 105، وقوله تعالى: "ومن أظلم ممن افترى على
الله الكذب أو كذّب بآياته إنه لا يُفلِح الظالمون" الأنعام:21، وقوله جل
جلاله: "والذي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ
الْمُتَّقُونَ" 33 ، ولأنها الخصلة التي لا يفتخر بها إلا من انسلخ عن
انسايته ، كما ورد في الموطأ عن صفوان بن سليم أنه قال قيل لرسول الله صلى الله عليه
وسلم :"أيكون المؤمن جبانا فقال نعم فقيل له أيكون المؤمن بخيلا فقال نعم
فقيل له أيكون المؤمن كذابا فقال لا"، وفي رواية أخرى قيل: أو يسرق المسلم،
قال نعم، أويزني المسلم قال نعم، أو يكذب المسلم، قال لا"، الأمر الذي يؤكده
علي بن أبي طالب بتحذيره من مصاحبة الكذوب بقوله:
ودع الكذوب
فلا يكن لك صاحبا**إن الكذوب لبئس خلا يصحب.
وعلى الرغم من
كثرة الحكم ، وتنوع الأمثال ، ووفرة الأشعار كثرة والأدلة الواضحة، والحجج الدامغة
المتداولة بين الناس ، المحقرة للكذب والدامة للموصوف به، والتي يستدل بها الفقهاء
والمشاييخ والمصلحون لتحذير الناس من مغبة الكذب ، وترغيبهم في تركه والابتعاد
عنه، وحثهم وتحريضهم على الصدق، فقد انتشرت هذه الآفة في العالم العربي والمغاربي
كما انتشر نيران الحراق في الغابات مع حرارة هذا الصيف، حيث تحول الصدق إلى
استثناء وشذوذ وعيب عمت في مجالات الحياة ، إلى درجة أصبح معها أنه حتى لو صدق
الرجل ، تعجبوا من صدقه، وربما عاتبوه عليه وأحيانا كثيرة عوقب وسجن وعذب على
شذوذه عما جبل عليه القطيع من كذب بواح، ما جعل الناس لا يهتمون بالصدق لا في
أقوالهم ولا في أفعالهم، ولا يستقبحون الكذب، ويستبيحون كل أنواعه دون أن يستشعروا
بوخز ضمير أمام ما يحمله من تدمير للحياة ، واختم بقول الشاعر:
لا يكذب المرء
إلا من مهانته***أو عادة السوء أو من قلة الأدب.