بقلم الكاتبة الروائية حسناء وهابي
ذات يوم وهي عائدة من كليتها التي تبعد من مسكنها قرابة خمسين كيلمتر،على متن
حافلة نقل المدينة،رمقت في طريقها شاب يمقت النظر فيها بإمعان،طويل القامة؛أبيض الوجه
ذو لحية خفيفة في أوج نبتها،ففور نزولها من
الحافلة؛وجدته ينتظرها.
-مهلا آنسة! أيمكنني التعرف
عليك؟
-كف عن طريقي،لاأريد التعرف
على أي أحد من البشر،جئت من البادية،كي أدرس ولا لكي أتصكع في الشوارع ولا لكي أخون
ثقة ربي ووالدي.
-كلماتك ذبحت صدري!وتسلل
حبك في قلبي،أنت سكينة الروح والفؤاد،أتقبلين أن تكوني زوجة لي؟
-زوجة!،أهكذا يكون الزواج؟إن
كنت صادقا فيما تقول؛فأنا لست بصغيرة الماعز،أو جريد نخل منكسر..!
-لكن من الطبيعي أن أتعرف
عليك،أليس كذلك؟
-لست أدري..،وبينما هي
غارقة في دموعها،وصاحبنا يرقبها بنظراته اللاذعة،بعدئذ وحين خروجها من القسم فور إنهاء
محاضرتها،ذهبت إلى حديقة الكلية،لتفتش حقيبتها،وتخرج منها قنينة من البلاستيك،كانت
قد ملأتها بالقليل من الشاي بصحبة قطعة من خبز.وماتزال الأنظار تراقبها بحذق،وبعد تناولها
لغذائها ودروب الجوع تتخلل إلى معدتها. بقيت على هذا الحال إلى حدود الساعة السابعة
مساء من ذلك اليوم.حينئذ وصلت الصبية متعبة مرهقة وعيونها مثقلة بالسهاد،لتجد أعمال
تنتظرها فور وصولها،من قبيل العجين والتصبين؛ثم التسوق ليلا.كانت الأنوار ساطعة متلألئة،وبدأت
تنطفئ رويدا رويدا إلى أن شحبت،واختفت وساد الظلام البهيم.والصبية مازالت تتأرجح وخطواتها
مثقلة،كانت تحمل فوق رأسها قنينة غاز من الحجم الكبير.لتستأنف الرجوع إلى كيس من دقيق؛هذا
الكيس هو أيضا من الحجم الكبير.وحين عودتها من التسوق من الخارج،عليها أن تطهي الخبز
الذي نضج ووجب رميه في الفرن،وبعد طهيها للخبز اللذيذ ذو الرائحة الزكية الفواحة،أرادت
أن تسرع لطنجرة الضغط،كانت قد أحضرتها عندما أكملت التصبين،لتلتصق يدها النحيلة بالفرن
المفرط من شدة الحرارة لساعات من الزمن وهي تتألم،فلا أم حنونة،ولاأب رحيم،فبعد صبرها
وإصرارها على مقاومتها،كانت الساعة تشير إلى الحادية عشر ليلا،تناولت الصبية العشاء
رفقة العائلة التي قدمت لها المسكن والمأكل والمشرب،أما الملبس ومايخص دراستها فكانت
هي التي تدبره بإيعاز منها.الظروف صعبة والزمن قاسي،وما أحر الثواني،أصيبت بالهزال
وهي لاتبالي،لمت أغراض المائدة بعدما قدمت لعائلتها الغسيل،فمريم تعامل معاملة خادمة في البيوت،لأن رب تلك الأسرة يحسب نفسه"سي السيد"هو
رجل أصلع أملط،له وجه أبيض دائري،وبطن منتفخة كبطن الناقة،قصير القامة؛يرتدي سروال
جينز قصير،عقيم وميسور الحال.أما زوجته فترتدي طقم من ذهب وقفطان من حرير مرصع بالأحجار
والجواهر الجميلة،فاتنة الرؤيا،لها جيد طويل ناعم،طويلة القامة،لها شعر أشقر،ويدين
بيضاوتين يشع منهما البياض واللمعان وأبهى النعومة.مسحت الصبية المائدة وجمعت أشلاءها،وانحنت
على ركبتيها النيئتين لتشطيب زربية الصالة.بعدئذ ذهبت اللطيفة لغسل الأواني والصحون،ثم
تنظيف الأرضية بواسطة جفافة وبعض مواد التنظيف.لتجد نفسها مغمى عليها فوق فراش بالي،رقيق
بارد،على أحد رفوف المطبخ،حيث هناك مكان نومها،وبعدما احتضنها النوم،تنهض في اليوم
الموالي لتحضر وجبة الإفطار للعائلة،ثم تستأذن
الخروج للكلية.وفي الخارج هنالك عالم آخر من الذئاب الآدمية،والوحوش البشرية
المتعطشة لدماء العفة.كانت نحيلة الجسم،هزيلة القوام،لكنها قوية،أراد شاب أن يبطش بها
فاحتمت بحجابها،وبدأ يعرض بها للتنمر،لكنها لم تهتم لأمره ولم تصغ إليه ولم تعر له
أية ردة فعل،طالما وهي تنتظر الحافلة والدموع تنهطل من مقلتيها.فلقد ذاقت ذرعا من العذاب
والقهر النفسي،واشتاقت لحضن أبيها؛وقبلة وحنان وعطف أمها،وأنس أخيها الأصغر،ومرح ومزاح
أخيها الأكبر.بعدما وصلت الحافلة؛أسرعت بعجلة لتظفر بكرسي بغية إيجاد راحة لقدميها،لأنهما
تورما من شدة فرط التعب،وانطلقت الحافلة تنهب الطريق،وتزفر وتصفر،وتجوب شوارع المدينة،وضعت
مريم كفها على وجنتيها الحمراوتين،وأخذت تتأمل القناطر والطرقات وممرات الراجلين،ومحطات
وقوف الحافلات،فأحست بصداع في رأسها كأنه يصف حال تلك القناطر والطرقات الكئيبة الحزينة
وكل ماتشعر به،لتجد الصبية نفسها أمام محطة الكلية.نزلت الصبية في مهل،وكان ثمة هنالك
شخص يرقبها،أبصرته وانصرفت لمدرجها؛ لتجده خلفها يهمس لأذنها كلمات(هاأنا ذا،اشتقت
لك ياحبيبة قلبي،ألم يحن الوقت بعد لنكون تحت سقف غرفتنا الأبدية؟)أشعرها كلامه بخوف
شديد،ورغبة شديدة في الصراخ والبكاء،كانت قد رشحت نفسها لموضوع عرض دراسي في وحدة تخص
تخصصها الأدبي.فقامت بكل فخر وكبرياء،وهي الأنثى النجية الأبية. بدأت في إلقاء عرضها،وعيونها تنهمر دمعا،بدأت
تبكي بشدة،أوقفها الأستاذ وحاول أن يهدأ من روعها قليلا.وعندئذ وجدت نفسها مرتمية في
أحضان صديقتها وأطلقت العنان لدموعها،بدأت تبكي بكل شوق ولهفة،حتى رويت ظمأ بكائها،واعتذرت
من الحضور،وهمت بالخروج،ذهبت إلى المقصفة،لتجد وراءها ذاك الشخص واقفا أمامها ممسكا
في يديه قنينة ماء وشيء من الحلويات،كانت في أشد الحاجة للحنان،قبلت هديته وحتى عرضه
لزواجه منها،وجلسا يتبادلان أطراف الحديث،الى ان داهمها وقت مرور الحافلة،وبعدما أرادت
الذهاب وطلوع الحافلة،لوح لها بيده الماكرة؛ وقال لها سوف أشتاق لرؤيتك ياملاكي،كان
صادقا في وصفها لملاكه،لأنها كانت ذات ملامح ملائكية بريئة،وسهلة للجميع،لذلك قرر الظفر
بها كفريسة ولقمة سائغة في يده،خشية أن يضمها أحد آخر يستحقها بدلا منه،لكن غروره لم
يسمح له أن يتركها،بعدما أصيب هو الآخر بخيبات من الأمل من الفتيات الناضجات الائي
درسن عقله بإتقان،والمسكينة لم تدرس فكره أبدا،ولاهي خمنت قليلا في مكره لها.وبعد معاناتها
أثناء سفرها من كليتها إلى مسكن عائلتها التي آوتها منذ سنوات ليست بالقليلة،كانت قد
ألفت طبائعهم وتصرفاتهم ونهرهم لها.لترتمي في أشغالها كسائر الأيام.ويأتي اليوم المشهود؛وفيه
تتلاقى العيون وتختبئ الأرواح ببعضها البعض،إنه يوم خطبتها؛كان يهتم بها كثيرا،إلى
أن تعلقت به وأحبته بلهفة وجنون،لكنه هو أصبح لاغ عنها.يوبخها على أبسط وأتفه وأسخف
أخطائها،فقلد أعيتها الحيلة،إذا لم تقم بأعمال البيت لها عقوبة،وإذا لم تدردش مع خطيبها
فلها عقوبتان.بقيت الصبية في عراك تام،حتى تم عقد قرانها به،لم تغمر الفرحة قلبها بد،بل
اعتراها حزن وخوف عليل،بقيت تبكي وكأن قلبها قد علمها بسجنها الذي ستخوضه؛ابتداء من
يوم زفافها.وصل موعد يوم الزفاف،وكان ذلك اليوم؛يوم الجمعة.اغتسلت الصبية ولمت بعض
أغراضها من كتب وملابس وأحذية،وعندما وصلت عائلة زوجها قبلت يد حماها وارتمت في أحضان
حماتها باكية،لأن العريس بدل أن يقبل جبين عروسه التي زفت له،قدم لها أجمل لطمة على
الإطلاق! وخرجت الصبية دامعة العينين،حزينة القلب،توحي بأنها ذاهبة إلى السجن المؤبد
الذي خطط له بعلها بحبه المزيف،فلقد أحبته بصدق.في حين هو؛فكان متعطش لمعرفة ماوراء
حجابها وكبريائها،ولما أشبع غريزته،نال منها مانال،وتفنن في تعذيبها،لتقع الكارثة!فلم
يجد ماخطط وتعطش له،ليفصح عن الوجه الحقيقي،ويمسي العدو اللذوذ بدل الزوج الحنون،وشريك
الحياة وسند الروح.أصبح فمه ينتع بكلمات نابية،حيث بات يلطمها ويطثها طثا مبرحا،حيث
قرص جلدها بأصبعيه؛وقبض عليها ولواه بهما فآلمه.بات يلزمها ويرغمها مالاتطيقه،أضحى
يعنفها عنفا ماشاهدته في حياتها البئيسة من قبل،ولاشربت من عصارة الظروف القاهرة التي
مرت بها.تضاعف الألم أضعافا مضاعفة،فلا العائلة التي آوتها سبق لهم أن صفعوها،ولا أصحاب
المعامل التي كانت تشتغل عندهم رموها بالسهام القاتلة،ولا الذئاب البشرية التي عايشتها
في الحافلة كانوا كذلك.فاتخذت حافة السرير مأوى لها،وحرمت نفسها من إبداعها وأحلامها
وآمالها وتشبتها بالحياة.فتجد الصبية نفسها حبلى!وبقيت المسكينة تعاني وتكابد حر الضرب
والقهر من زوجها،وحر السخرية والتنمر من عائلته.وبعد مرور تسعة أشهر من حملها.أجاءها
المخاض إلى حافة السرير،وضعت حملها أنثى،وأطلقت عليها اسم "نوارة"،كبرت نوارة
وصار عمرها ثلاث سنوات،وبقيت الصغيرة تتأرجح بين حنان أمها وقسوة والدها.فأصيبت نوارة
هي الأخرى بذبحة صدرية شبيهة بتوحد الأسبرجر،وكان سببها تعنيف أبوها عادل لأمها مريم.وبقيت
مريم لقمة سائغة في يد عادل الذي بينه وبين العدل طريق وعرة وشاقة؛وصراط ملتوي حاد
كي يصل إليه.وفي يوم من الأيام العليلة،كانت مريم ذاهبة إلى أحد الصيدليات المجاورة
،بغية شراء دواء يحد من سعال نوارة.لكن زوجها بسبب قسوة قلبه وحدة غيرته القاتلة؛أمسك
بسكين وقام باغتيال مريم،فكانت لقمة سائغة أيضا في يد الموت،طرحت أرضا،وبدأت تلفظ أنفاسها
إلى أن توفتها المنية،وتغمد التراب روحها الملائكية البريئة.