بقلم الأساتذة الروائية حسناء وهابي
لم تصدق الطفلة الصغيرة أنها ستسافر بعيدا عن مسقط رأسها ، بعدما تم الإعلان
عن نجاحها وتفوقها بميزة مشرفة ، فيكف لها أن لا تصدق !؟ وهي التي نال منها حر الدمع
مانال من مقلتيها البريئتين .
جعلت الكتاب رفيق دربها واتخذت القلم عشيقا لها ، فحسناء ؛ أرادت أن تسلك الجهل
والأمية عن طريق الإبحار في قنوات وممرات العلم والمعرفة ، لأول مرة ستسترس طعم الهجرة
وتلثمه، لأول مرة ستغمض عينيها من دون قبلة أمها ، وداعا للحرية والطفولة ياحسناء
! ولأول وهلة ستطيع لأوامر مجحفة في حق طفلة نيئة . وصل اليوم المشهود لتجد نفسها واقفة
طائعة لأوامر ضارية ، بل باتت لقمة سائغة في أيديهم ، بات الحزن رفيقها بعدما كان المرح
موضعها ، والدموع سلاحها بعدما كان رذاذ لعابها يتناثر من فاهها ، وياويحك يا حسناء
إن أقررت بامتحان ، وياويحك ياصغيرتي إن تأففت بالعدوان . بقيت الطفلة تعاني وتقاسي
، ومكثت لمدة ليست بالقصيرة ، إضمحل مجهودها وتراجع ، فأضحت تحصل على أدنى المعدلات
الدراسية .
لكن المسكينة ماكان غرضها الأساس أن تعمل كخادمة في البيوت ، بل إن رغبتها كانت
كمثل تلميذة مهاجرة قروية ، كانت فكرتها الأساس أن تحضى بعناية فائقة ؛ كي تستطيع التأقلم
مع البيئة الاجتماعية ، لكن كفة العدالة الاجتماعية مالت لأقرانها ، وأغفلت حقوقها
، بسبب فقرها المضقع ، وبات الكهرباء يبتر من طرف ولي أمرها ؛ عندما تريد التحضير لامتحاناتها
، والضرب والنهك والصفع اتخذا مكانا قصيا . أصيبت باضطرابات نفسية قاهرة ، ضلت تتباين
عن زملائها في أصولها الجغرافية ، لتتهم بالمكر والخداع رغم الجد والصدق في أعمالها
وتصرفاتها . إنها فتاة قروية تائهة في المدينة ، ترغب في استكمال دراستها بكل فخر وهناء
، لكن المسكينة لقيت حتفها أمام عائلة استغلالية ، حيث أصبحت تشتغل عند محامية - بعدما
كانت تدرس في القرية وترعى قطيع الماشية في هناء وعافية وفي غاية الأنس والحنان والحبور
والسرور رفقة أبويها - تعلم كلبها الفرنسية ؛ وحسناء جاهلة أمية ، منهمكة في أعمالها
الشاقة التي جعلت منها قضايا قضية . مكثت الطفلة في مدينة الدار البيضاء قرابة أزيد
من سبع سنوات ؛ والتي حولتها الى نقطة سوداء في شوارعها وأزقتها . بقيت تعاني وتكابد
حر الهجرة ؛ بل إن حر تلك العائلة لأشد حرا.رغم
الظروف القاهرة القاسية العليلة التي كابدتها ، ولدت لها ظروف أخرى لم تخطر على بالها
للبتة ، حيث عليها أن تجوب شوارع البيضاء رغبة في البحث عن عمل يخول لها شراء مستلزمات
كتبها . بقيت على هذا الحال صابرة مستبصرة إلى أن تم الإعلان عن نتائج الباكلوريا ،
بعدئذ فرحت الفتاة فرحا شديدا . لتسرع إلى محفظة ملابسها وتلقي النظر فيهم بإمعان ؛
وتبتسم ابتسامة فتاة يانعة ، لتدرف دمعات الفرح قائلة : "اليوم ذكرى أجمل يوم
في عمري ، ذكرى مرور سبع سنوات على هجرتي وارتداء حجابي ، ذكرى حفرت في أعماق قلبي
، وطافت في حنايا عقلي ، وأسدت حبورا على حياتي ، كان ولايزال وسيبقى قراري الذي يحتفى
به . لطالما لم يقدر أحد على أن يهز كياني ، ولا أن يبعثر وجداني أو يعبث بأعصابي ،
سلاحي كان ولايزال وسيبقى الضحك أو البكاء ، فلا مكان للقلق والغثيان والضعف عندي
.
أصحيح أنني فتاة قروية ضعيفة ؟ كلا ! بل إنني فتاة قروية مهاجرة قوية
."وانطلقت الأفكار والقرارات تعدو وتطرق على رأسها ، لتصل بنا إلى يوم تخرجها
وتحقيق حلمها ورفع قبعتها ، لتطلق العنان لقلمها برغبة جامحة في استكمال دراستها ونهب
كتبها والتهامهم عن ظهر قلب ، إن الدراسة عند حسناء لشغف .