بقلم الأستاذ حميد طولست
كلما اختليت بنفسي وجلست إليها ، إلا ومرت أمام عيني شرائط ذكريات الماضي الحلوة
منها والمرة ، بكل ما تخزنه من مظاهر الفرحة والسعادة والحب والمودة والرحمة والإخاء
والوفاء والتسامح والتعاون والإحسان والسلام ، وغيرها من الخصال والقيم الفاضلة ، التي
كانت مزرعة في أعماق عقول وضمائر أهل حينا الشعبي "فاس الجديد" والذين عاشوا
على اسنبات ثمارها صالحة في دريتهم لآماد طويلة ، قبل أن تمتد موجة التأسلم وهبة الأخونة
المتنكرة في مسوح الإخلاص الصلاح والدفاع عن الدين و قيمه السامية والمبادئ الإنسانية
، وقبل أن يغييروا طباع الكثير من المغاربة ، وطباع بعض من ساكنة حينا الطيبين ، ويقتلوا
في مسلميه المسالمين كل مورثاته من المثل الأصيلة ، وقبل أن يجرفوا بهم إلى قيعان الإفلاس
الحضاري والانهيار الأخلاقي ، ويحولوا حياتهم الآمنة إلى جحيم غابة يسكنها الخوفُ والهلع
، ويغشاها السلب والنهب والسطو والنشل والسرقة والتحرش بكل قساوته ووحشيته وعنفه، والتي
أصبحت وغيري كثير ، أحس معها بالضيق والغربة من فرط امتزاج قيم العدل بالظلم ، والكذب
بالذكاء ، والطيبة بالغباء ، والتملق بالإخلاص ، والتواضع بالذلة ، والعلم بالجهل ،
والصدق بالحماقة ، واللباقة بالسذاجة ، والوقاحة بالشجاعة ، والتعصب بالقوة ، وترسخها
ترسخا خطيرا في نفوس لم تعد تتحرج غالبيتهاِعنْ أن توصف بمساوء الخلط القبيح ، والاختراق
البشع ، والاختلاط المشوه ، والنشاز المهيج لأحاسيس الغضب المستدعية لعواطف الحنق المستنفر
لمشاعر الاشمئزاز والكراهية ، التي أحس معها بأني لم أعد واحدا من أهل هذا الحي -أو
بعضهم على الأصح-بشكلٍ كامل وحقيقي ، ويصيبني الانكسار ، ويسيطر علي الخذلان ، وينتابني
شعور عميق بأنّي غير مناسب لهذا العالم ، فأكره نفسي وحالي ، وتتحكم بي شهوة البكاء
ندما على ما عاشته نسختي القديمة من ذكريات جميلة مع أناس كانوا يقدرون قيم الحياة
، ويعيشونها الحب والأمل والجمال والإيمان ، ويعاملون بعضهم ، بتّسامح وتواضع ، دون
استصغار أو كره ، بعيدا عمن جعلوا من الدين
الحنيف مجرد لحية وسبحة وجلباب قصير وطقوس تنتصر للجهل على المعرفة ، والخرافة على
الحقيقة ، والمصلحة العامة على المبدأ ، والعنف على التفاهم ، والعبودية على التحرر
والإنعثاق ، غايتهم نشر التطرف والاستبداد ، وفرض الوصاية والاستبداد ، الذي لا يخدم
إلا التوجهات المناهضة لحقوق الناس ، والمخذلة لطموحاتهمِ ، والمعيقة لنماء أوطانهم
، وغيرها من النقائص الاجتماعية والرذائل الأخلاقية التي أنتجها عفن شرائعهم الميتة
-المنسوبة للدين ظلما – والتي سارت وتسير بالمجتمع
إلى الوراء بكفاءة شيوخ التأسلم ، وغرور الذين يظن الواحد منهم أنه بمجرد تقصير جبته
واطلاق لحيته وتأديته لبعض الفرائض الدينية المظهرية ، قد أصبح الممثل الوحيد والأوحد
لرب العالمين، ويشعر أنه امتلك مفاتيح جناته
، التصرف الذي كرّه خلق الله في دين الله ، بما حشوه به مما تجاوزه التاريخ وكذبته
الاكتشافات ورفضه المنطق وخالفه العلم والواقع من أساطير الأولين..