بقلم الأستاذ حميد
طولست
رمضان هذه السنة
كما الذي قبله ، لا يشبهان أيَّ رمضان آخرَ مرّ على بلادنا خلال السنواتُ الطيباتُ
الماضيات، والذي لا أظن أن هناك من ينكر أن
طعمه في هذه السنة مميز ، وله نكهة مختلفة عن الرمضانات الفائتة التي كانت ومنذ آلاف
السنين حيٌة تتكلم وتغنّي وتزغرد وتنثرُ الود والمحبةَ ، وكأن أيامها كانت مصبوغة بطعم
الحياة والعيد الذي لا يعرف ساهروها النومَ إلا مع انسلال الخيط الأبيض من الخيطِ الأسود،
فمباله رمضاننا
اليوم صامت خامد لا يختلفُ عن بقية شهور العام حزنا وهما وغما، وبأي تعويدة أو طلسم
يمكن إستعادة روحانية طقوسه الجميلة بكل لياليها الزاخرة بالذكر والتعبد ، و أماسيها
العامرة بالرغد والخير والفرح ، وسهراتها المفعمة بالحب والأمن والسلام ، مع الذات
والآخرين، وعلى رأسهم الجار الذي كان الناس في حينا الشعبي "فاس الجديد
" يعرفون معظم جيرانهم معرفة وثيقة ، ويتعايشون معهم في تفاصيل كثيرة وروابط اجتماعية
متينة يسودها التعاون والتلاحم، والتكافل والتكاتف ، والتواد والتراحم، المنبثق من
"الدرب والحومة" الفضاء الذي يترجم وحدة الجماعة ، والتي هي عند علماء الاجتماع
"اللحمة" مبنية على الإيمان بأهمية الجار، والإحسان إليه في السرّاء والضرّاء
، وحب الخير له والعمل به وفي الشدّة والرخاء، السلوك الذي إنمحى ،مع الأسف الشديد،
من على خريطة العلاقات الاجتماعي ، في زماننا الأغبر هذا الذي أصبح فيه الواحد منا
لا يهتم بأن يوثق علاقته بجاره ، والتي قد يحدث أن تطفو تلك الآصرة على السطح فجأة
عقب وفاة أحد الجيران ، أو معاناته مع مرض خطير ، أو عند انهيار منزل ، أو بعد نشوب
حريق أو فيضان ، فتدفع البعض للمخاطرة بأرواحهم لإنقاذ جيرانهم ، في تضامن مثالي تنتهي
مدة صلاحيته بمجرد أن يُسدل الستار على الحادث المأساوي، لتعود بعده الحياة إلى نزعتها
الفردانية المهيمنة ، التي تؤدي إلى الانكماش على الأسرة ، خلافا لما عرفه الحي في
الماضي الجميل من أواصر الألفة والمحبة، والتعاون بين عموم الجيران في السراء والضراء ، والذي يذكرني جيدا بإصرار والدي - رحمه الله واسكنه
فسيح جناته – الذين كان لا يفطر حتى يرسل من طعامنا الرمضاني لأبعد الجيران المحتاجين
قبل أقربهم ، ولازالت رخامة صوته تشنف سمعي وهو يسائلنا: "واش ديتوا لفطور لفلان
وفلانة وفلان وعلانة ؟ إيوا زيدوا تفطروا الله يرضي عليكم".
اللهم أثقل موازين
حسناته يوم القيامة ، مصداقا لقوله سبحانه وتعالى : "إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا
عَظِيمًا " النساء/40 ، وقوله : "فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا
يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ "الزلزلة/7-8
وخير ما اختم به
هو التضرع لجابر القلوب ومُجير المكروب أن يجبر قلوب الجيران ، ويربط بينها بالأُخوّة
، ويجِرها من الافتراق، ويرفع عها البلاء، ويدفع من حولها الوباء ، وينزل عليها وعلى
جميع عباده رحمته ولطفه ، إنه مجيب الدعاء مصداقا لقوله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز:
"إِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ
إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ".