بقلم عبد الغني فرحتي
استنادا لمعطيات رسمية، يعاني الملايين
من المغاربة من أمراض واضطرابات نفسية متنوعة ومتفاوتة الأثر. بعض هذه الاضطرابات قد
تكون خفية لا تحمل أعراضا، بحيث يبدو صاحبها لذاته وللآخرين على أنه يتمتع بالصحة النفسية
السليمة. وهكذا قد يوجد بيننا ناس يعانون من الانفصام، وهو اضطراب نفسي يكون من علاماته،
عموما، أن يتصرف الشخص كما لو كان شخصين منفصلين وأن يتخذ مواقف ويعبر عن أراء متعارضة
إلى حد التناقض.
نترك تدقيق سمات هذه الحالات المرضية للمختصين
في مجال علم النفس والتحليل النفسي ولنقف عند واقعة، ظلت عالقة بذاكرتي، تعود إلى أواخر
ثمانينيات القرن الماضي، بطلها شاب كان رفيقا لنا، متشبعا بالفكر اليساري ومناضلا بارزا
على الواجهتين الحزبية والنقابية آنذاك.
لم يكن يترك هذا الشاب أية مناسبة تمر دون
أن يعبر عن اعتناقه لقيم الحداثة والتحرر وامتعاضه من الثقافة التقليدية السائدة التي
تتحكم في المجتمع المغربي على مختلف المستويات. كان يبدو مجسدا للمثقف العضوي (حسب
تعبير الفيلسوف الإيطالي غرامشي). فرغم حصوله، بعد مسار دراسي ناجح، على وظيفة ومكانة
ودخل مريح، إلا أنه ظل مدافعا عن حقوق الشغيلة.
دار الزمن دورته، وقرر أخونا، المناضل الحداثي،
أن يدخل " القفص الذهبي". اختار شريكة حياته وأقيم حفل زفاف كبير، هيمنت
عليه الطقوس التقليدية التي كانت تصاحب العرس المغربي حينئذ. وكانت خاتمة المراسيم
أن اقتيد العريس بصحبة عروسه إلى غرفة ستعرف حدث "الدخلة".
نعم، اختلى العريس بعروسته، أغلقت الغرفة
وتحلق حولها بعض من الأقارب والأصدقاء وقد حملوا بنادير وتعاريج وانغمسوا في الهتاف
والإنشاد وأنظارهم مصوبة نحو الباب في انتظار "القماش الموشوم بالدم".
بعد أيام، زار بعض "رفاق" العريس
المناضل الحداثي، فصار يسرد، إثباتا لفحولته، تفاصيل "الدخلة". كان مما كشف
عنه متباهيا: " بعد أن انفردت بها وأغلقت أبواب الغرفة، اقتربت من عروستي ولما
لاحظت خوفها وممانعتها، لم أجد بدا من أوجه لها لكمة قوية افقدتها شيئا من وعيها. مما
سهل علي القيام باللازم وتسليم "المطلوب" للمتحلقين حول الباب في وقت وجيز
".
فكيف لا يكون هذا التناقض بين الإعراب عن
تبني الفكر الحداثي وبين حرصنا على الالتزام بطقوس، توصف على مستوى الخطاب، بأنها تقاليد
بالية؟
أليس في ذلك مس من انفصام كان ولا يزال يتربص بنا؟. يتبع ..