ــــ فكرة إعادة تدوير الأشياء ليس بالأمر الجديد، كما يبدو
من إرتباط مفهومه بالدعوات المستحدثة التي برزت في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي
كأهم المبادرات المحافظة على البيئة التي أنتجها الكساد الاقتصادي الذي عم العديد من
دول العالم ، والتي تراجعت شعبيتها بعد تحسنه ونموه ، وتمت إعادة طرحها بقوة في يوم
الأرض الأول عام 1970م ؛ والتي هي في حقيقة أمرها فكرة وعملية قديمة جدا ، مورست منذ
العصر البرونزي ، حيث أذاب الإنسان المواد المعدنية ليحولها إلى أدوات جديدة.
وللفصل في ثنائية قدم اعادة التدوير وحداثيتها ، وجدتني مدفوعا
للبرهنة على ذلك باللعودة إلى الماضي الجمعي لحينا "فاس الجديد" ، وبالتحديد
إلى نسائه الواتي كن يعدن تدوير كل شيء ، وأضرب لذلك مثالا بوادتي رحمها الله ، التي
كانت قيد حياتها -كباقي نساء جيلها - طباخة ماهرة ، وخياطة حذقة، ومصلحة وملمعة بارعة
لأحذية أبنائها ، ومزراعة مقتدرة في إستغلال مرافق سطح بيتنا وتحويل فضاءاته إلى حديقة
جميلة وجلسة مميزة ، ومغنية صداحة لأغاني تنويم صغارها ، إلى جانب كل المميزات ، حيث
كانت رحمها الله من أمهر جاراتها في إعادة تّدوير كل الأشياء والمواد البسيطة المستهلكة
المتوفرة لديها، والتي كانت ترفض التخلص من أي منها ، ولا تسخى برميها في القمامة ،
وعلى رأسها ألبسة الأطفال وجوارب جميع أفراد العائلة ، التي لم يكن لها عندها أي نهاية
للصلاحية ، زائدة كانت عن الحاجة أو غير زائدة ، حتى ما صغر منها أو أصبح قديماً ورثا
، والذي كانت تعيد رتقها للاستعمال الآني ، أو لتخزينها "لدواير الزمان"
-أي الرجوع إليها عند الحاجة كما كانت تردد دائما- بوضعها في صنادق تُركن في
"القوس*" أو "الطارمة*" التي أصبحت مع الزمن كمغارة علي بابا ،
أو جوطية بوجلود في زمانها الذهبي ، جراء ما كدسته بها وزاحامته فيها من ملابس ومتاع
وأثاثات من كل الأصناف والأنواع .
لم تكن أمي ،رحمها الله، تعيد تدوير الأشياء لفقر أو حاجة
- فقد كانت أسرتنا متسوطة الحال ، نملك ما يكفينا دون أن يفيض عن حاحاتنا ، كما هو
حال أكثر ساكنة حينا الشعبي "فاس الجديد" الذي لم يكن حي غنىً أو ثراءً
- ولكنها كانت تفعل ذلك انطلاقا من امتثالها لتعاليم دينها الإسلامي الداعي إلى الإستفادة
من خيرات الله دون إسراف أو تبدير أو فساد ، والمحافظة عليها بالاعتدال في إنفاقها
واستهلاكها. ومن اعتقادها بقيم مجتمعها الذي
كان ولازال يطلق اسم "المرأة الحادقة " أي المدبرة على المرأة التي تدبر
أحوال أسرتها وتنتج أشياء من مواد بسيطة ومستهلكة ما يساهم في التقليل من تكاليف مصروفات
بيتها ، وصرف نقم مكاره الزيادات على ميزانية أسرتها ، وربما كانت تنطلق في عملها ذلك
من فطرتها التي كانت تجعلها تجد لذة فيما تكسب بيديها ، ما لا تجده فيما يساق إليها
دون كد أو ثعب ، تماما كما في مقولة طه حسين التي وردت في "المعذبون في الأرض"
: "مهما يبلغ الفقر بالناس، ومهما يثقل عليهم البؤس، ومهما يسيء اليهم الضيق،
فإن في فطرتهم شيئاً من كرامة تحملهم على أن يجدوا حين يأكلون مما كسبت أيديهم لذة
لا يجدونها حين يأكلون مما يساق إليهم دون أن يكسبوه أو يحتالوا فيه".
ومما آسف له كثيرا اني لم أرث من أمي عادتها في تدوير الأشياء
وترتيبها ، وورثت من والدي رحمة الله عليه ولعه بفوضوية الإحتفاظ بالأشياء والأغراض
القديمة ، ومتراكمتها في كل مكان دون ترتيب ، في انتظار الوقت المناسب لإصلاح المعطوب
والمكسور منها، العادة التي صاحبتني حتى بعد
زواجي ، وكانت مصدر تعاسة نفسية لزوجتي التي لم تكن مثلي تجد في الفوضى راحة أو ابداعية
، الأمر الذي تسبب لنا في الكثير من التوترات التي بلغت دروتها ، يوم عدت إلى المنزل
فوجدتها قد نظفت البيت من كل ما كان يملأ أرجاءه من أشيائي ، وتبرعت بها لأول محظوظ
مر أمام البيت من بائعي المتلاشيات ، ابتسمت مع نفسي و قررت إنهاء هذه العادة ..
هوامش: – الطارمة
أو القوس في العامية :الطارمة هي مكان لحفظ مواد التموين وخاصة السوائل منها من زيت
وسمن وعسل بالإضافة إلى الزرع وحبوب القطاني ، وكل ما زاد عن الحاجة منها. والقوس هو مكان يشبه الطرمة ولكنه لا لحفظ الأغطية
الصوفية وخزنها في أيام الصيف الحارة ، إضافة لبعض الأفرشة الصغيرة ، وقد توضع فيهما
الأشياء الزائدة والتي يمكن الرجوع إليها عند الحاجة