بقلم حميد طولست
من المسلمات أن
التعددية المفرطة في الاحزاب لا تؤسس للديمقرطية في أي بلد من عالمنا ، رغم أن مسار
أي ديمقراطية من ديمقراطيات الدنيا ، لا يستقيم ولا يتقوى ولا يتقدم إلا بوجود تلك
الأحزاب وخاصة منها الجدية القوية ذات أصل تاريخي ومصداقية مرجعية المكتسبة من رهاناتها
السياسية الملتزمة بمبادئ المجتمع الذي أنجبها باستقلالية ، وباحترامها لثقافته ، واهتمامها
بكافة قضاياه وطموحاته واحتيجاته وجميع حقوقه السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية
والثقافية المقررة في الدستور وفي المواثيق الدولية ، ووضعها حيز التنفيذ تشريعا ورقابة
ومحاسبة ؛
فهل توجد على أرض الواقع السياسي لبلادنا مثل هذا
النوع من الأحزاب الملتزمة بحماية المجتمع الذي تعمل على تأطيره ، والمنتصرة لحقوق
أفراده وحرياتهم الشخصية والجماعية ، والميسرة للسبل المتيحة لإطلاق طاقاتهم الإنتاجية
والإبداعية المؤدية إلى تنمية ظروفهم وأحوال وطنهم؟
وهل ستكون تعض
أحزابنا - التي ليست غالبيتها غير هيئات قيادية لمقاولات سياسية تقتسم الريع السياسي
- على موعد في زمن ما مثل تلك المؤسسات السياسية القوية التي تحفز المواطن، بل تفرض
عليه المحافظة على إرث مؤسسيها واحترامها وتقديرها وتقبلها والتواصل معها والإلتزام
ببرنامجها وتطبيق قوانينها ثم تدعيم مواقفها، دون التفكير في "قلب الفيسة"
عنها أبدا ؟..
فحسب المقولة الشهيرة
المؤكدة على أن الحقائقة لاتحمل دائما في طياتها ما يسُر ويُرِيح ، واحيانا كثيرة ما
تكون جحيما عل الواقف عليها وتلزمه بالهروب مما تحمله من مصداقية مخيفة ومنطق ومعقولية
مرعبة ، كالمنطق والمعقولية التي تتضمنهما الأسئلة السالفة الذكر والتي يستحيل معها
الرد عليها بالإيجاب ، أو بتأكيد إمكانية حدوث ذلك ، سواء في المدى القريب أو البعيد، وسياسيا يصعب العثور على حزب من أي اتجاه أو أيديولوجية
بقي محافظا على ارث مؤسسيه ، ولم تستبدل استخلافات وانقلابات قياداته، اصل عقيدته و جوهره ،سلبا أو ايجابا ،في ظل اغماض
الهيآت القيادية للعديد من الأحزاب -يمينية كانت أو يسارية أو دينية- لعيونهم عما تعانيه
أحزابهم مع الكثير من الأمراض والعيوب البنيوية، وممارستهم التهرب من مسؤولية معالجتها
وواجب تصحيحها ، ليس عجزاً منهم على فعل ذلك ، ولكن لغاية في نفس "اليعاقبة"
المستفيدين من وضع تلك الأحزاب الذي لا يريدون لاختلالاتها تغييرا ، والتي يكتفون بتعليقها
على مشاجب واهية وغير منطقية ، رغم وفرة التشريعات والقوانين القادرة على معالجة وتصحيح
مسارها وخاصة إذا كان المستحوذون على زمام
تلك الأحزاب من الفقراء "لمكردين" الذين ليست جرأةُ الدفاع عن الحقيقة ،
ولا يختارون السَّيْرَ عكس التَّيارات السائدة كَي لا يخونوا صَوْتَ ضمائرهم وناخبيهم
، والذين كلهم تحفز ولهفة على تحسين أوضاعهم الإجتماعية والمادية ، بالمراهنة على الغنائم
مخلصهم الوحيد مما كانوا عليه من حال الخصاص والفقر والاملاق ، على حساب الوطن الذي
حولوا مصالحه لقرابين تُنحر على عتبات معابد الانتهازية وإشباع الرغبات المكبوتة،
فكيف راد من هؤلاء
أن يحافظوا على ارث أحزاب بناها مؤسسوها الصالحين المتطلعين إلى الإصلاح على الدعوة
للثقوى والزهد في المال ، والتضحية بالأرواح
في سبيل حرية الأوطان وانعتاقها ، دون زجر أو تعزير، ونحن نعلم أن الساسة الصالحين
والمصلحين لا يولدون من رحم امنيات واحلام من يحاربون الفضائل وينتهجون الرذائل ، ويلون
أعناق الآيات القرآنية والأحاديث النبوية لتحويل الكثير منها إلى بديهيات يهرولون خلفها
على مدار الساعة ، الا ما رحم ربك؟ وذلك لأن الأحزاب كالبشر مشاؤون بطبيعتهم نحو المصالح
والمكاسب -مع إختلاف النسبة والدرجة طبعا- و قليل منها لها جرأةُ الدفاع عن الحقيقة،
وفي النادر ما يختار بعضها السَّيْرَ عكس التَّيارات السائدة كَي لا يخونوا ضمائرهم
والناخبين الذين صوتوا لها ، وما غالبية وعود الاصلاح والعدل والبناء والتعيمر حال
الوصول للحكم ، فليست سوى عرقوبيات ، فضح الواقع كذبها ، وكشف الزمان زيفها ، واثبتت
الملابسات عكس زعم وادعاءات قادتها ، وفي الختام لا أخفيكم سرا أني لا أفهم ما قيمة
الأحزاب وما أهميتها إذا لم تكون وسيلة ديناميكية تتحدى السلطة إذا فسدت وتدافع بحزم
عن البلد ضدها من أجل تحقيق عيش أفضل للمحرومين.