من بين أهم مؤشرات
قياس مدى تقدم الدول والمجتمعات على جميع المستويات، يبرز مدى احترام هذه الأخيرة لقيم
الشفافية والنزاهة والحكامة الجيدة، ليس فقط كممارسات أخلاقية تطبع تصرف الأفراد، ولكن
كمنظومة مجتمعية متجدرة في السلوك اليومي للمواطنين، تم العمل على ترسيخها عبر إرادة
سياسية حقيقية، من خلال سياسات عمومية ناجعة جعلت من محاربة الفساد والرشوة أولوية
قصوى لتحقيق تطلعات الشعوب في الديمقراطية، والعدالة، والنمو الاقتصادي.
تشير مؤشرات ملامسة
الفساد على المستوى العالمي، برسم سنة 2019، إلى أن آفة الفساد تشكل إحدى تجليات الممارسة
الاقتصادية والسياسية لأغلبية دول العالم، وأن المجهودات المبذولة لم ترق إلى تحسين
ملموس في هذا المجال، حيث تبين أن أكثر من ثلثي دول العالم، ومن ضمنها عدد من اقتصاديات
الدول المتقدمة ظلت تراوح مكانها بخصوص مكافحة هذه الآفة.
وظلت إفريقيا في
ظل هذا الوضع العالمي، تتبوأ مكانة متدنية حيث أجمعت الانطباعات الصادرة عن أكثر من
50 في المائة من الساكنة الافريقية للتفشي المتزايد لهذه الآفة، ومؤكدة ان مواطنا من
أصل 4 مواطنين وجد نفسه مضطرا لدفع رشاوي للولوج إلى بعض الخذمات العمومية الأساسية
كالصحة والتربية.
المغرب، بدوره،
لم يظل بمنأى عن هذا الوضع فرغم حصوله على تنقيط 43/100 برتبة 73/180 في مؤشر ملامسة
الفساد برسم سنة 2018، وکسبه لثلاث نقط مقارنة مع سنة 2017 التي حصل فيها على
40/100 برتبة 81/180 الأمر الذي تم تفسيره بكونه يمثل تحسنا تصاعديا في ارتسامات وانطباعات
الشريحة المستجوبة في إطار هذا المؤشر، إلا أنه عاد ليتراجع بسبع رتب ويحل بذلك بالمرتبة
80/180 دولة، سنة 2019، بعد فقدانه لنقطتين وحصوله على 41/100.
غير أنه على الرغم
من هذا التراجع المسجل في تنقيطه سنة 2019، لا يزال المغرب يعرف تحسنا طفيفا بالمقارنة
مع السنوات الماضية، وذلك بفضل الإجراءات التي اعتمدتها المملكة من أجل الحد والقضاء
على الرشوة في جميع مجالات الحياة.
هذه الإجراءات
والتوجيهات عرفت طريقها إلى الفضاء العام المغربي على الخصوص مند بلورة برامج وطنية
لمحاربة الرشوة في 2005 و2010، والتصديق على معاهدة الأمم المتحدة ضد الرشوة في
2007 حيث أحدثت في هذا السياق الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة، فضلا عن إطلاق الاستراتيجية
الوطنية لمحاربة الرشوة في 2016.
وترمي هذه الاستراتيجية،
التي تمتد لعشر سنوات من ثلاثة مراحل (2016-2017)، (2017-2020) و(2020-2025)، وهي الأولى
من نوعها بالمغرب، في أفق سنة 2025، إلى قلب التوجه بطريقة واضحة ولا رجعة فيها، وتعزيز
ثقة المواطنين وتحسين نزاهة الأعمال وتموقع المغرب على الصعيد العالمي.
وقد تواصل هذا
الورش السياسي والمؤسساتي بإحداث الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها،
والتي أنتجت أول تقرير لها بعد تعيين رئيسها في شهر دجنبر 2018 تحت عنوان “تقرير الإنطلاقة”،
الذي يحلل ويبرز، من جهة، حدود السياسات العمومية التي تم تبنيها خلال السنوات الماضية
لمحاصرة تفشي الفساد ببلادنا، ومن جهة ثانية، المبادئ والأسس التي حتمت ضرورة التوفر
على إطار قانوني ومؤسساتي يمكن هذه الهيئة، من النهوض بدورها ومهامها على النحو الأمثل.
بعد ذلك، أصدرت
الهيئة تقريرها السنوي الأول برسم سنة 2019، مصحوبا بمجموعة من التقارير الموضوعاتية
والتفصيلية تروم تقديم ما تم القيام به في إطار الأوراش والدراسات والإنجازات التأسيسية
للمرحلة المستقبلية لمكافحة الفساد وتعزيز قيم النزاهة والشفافية والحكامة في البلاد.
وجاء هذا التقرير
بتحليل معمق لواقع الفساد بالمغرب في أفق تقوية مكافحته، كما ألقى نظرة شمولية على
التوجهات الاستراتيجية المقترحة على مستوى مجموعة من المحاور المؤثرة.
وحسب التقرير،
تنطلق هذه التوجهات من فكرة مركزية تشكل رؤية شمولية لآفاق عمل الهيئة ومكافحة الفساد
في المغرب وتتلخص في التعبير والمضمون التالي : “من أجل دينامية وطنية قوية ومعبئة،
تطبعها المسؤولية والمصداقية، وترتكز على التكامل المؤسساتي وتحقيق تغيير عميق ومستدام،
يتجه نحو تسطيح منحى تفشي آفة الفساد بالمغرب، ويتبلور من خلال نتائج ذات آثار ملموسة
في الواقع اليومي للمواطن، بما يعزز متطلبات الثقة و الانخراط الجماعي”.
كما اعتبرت الهيئة،
في هذا التقرير، أنه من الضروري اعتماد مقاربة تنطلق من المكتسبات التي حققها المغرب
في مجال مكافحة الفساد خلال السنوات الماضية، وذلك باستثمار التراكمات والإنجازات التي
تحققت، والوقوف على العوائق والإخفاقات والنواقص التي طبعت المرحلة السابقة لمعالجتها
وتجاوزها.
يبقى أن كل هذه
الخطوات والاصلاحات والاجراءات، لن يكون لها أي تأثير، إذا لم يكن العنصر البشري في
صلب اهتمامها، من خلال التركيز على سلوكه أولا لاكتساب ثقافة نبد الرشوة ومحاربتها،
والسير قدما نحو ترسيخ ربط المواطنة، بمدى الالتزام بقيم النزاهة والشفافية.
عادل جوهاري