adsense

/www.alqalamlhor.com

2020/11/26 - 10:37 ص

بقلم الأستاذ حميد طولست


جمعني طلب الأنس وتمضية الوقت في جلسة لطيفة مع ثلة من قدماء الأصدقاء والمعارف  بمقهى الناعورة -الذي يعج بالكثير من روادها على اختلاف أعمارهم وثقافاتهم وطبقاتهم الاجتماعية- لتجاذب أطراف الحديث عن الهموم الحياتية لناس حينا الشعبي "فاس الجديد"، وما يشغل بالهم من أحداث اجتماعية أو سياسية ، من خلال حوارات ودية ونقاشات لطيفة شيقة غلبت عليها تساؤلات ملحة حول ما طرأ على ساكنة الحي من دخن قوض جمال طبيعتهم ، وطمس معالم إنسانية طبعهم ، فلم تعد تحرك نفوسهم الطيبة لا العود ولا أوتاره ، وذهبت روائحها الزكية التي كانت تعطر أجواء الحي ، وتملأ جوانح ساكنته بعظمة الشعور بالانتماء إليه ، التساؤلات التي اعتقد أن الجواب عليها بديهي وبسيط ولا يتطلب التفكير الكثير ولا الاستدلال الطويلا ، وذلك لأنه رغم صعوبة الواقع المعاش بهذا الحي الشعبي جدا ، ومعاناة شرائح كثيرة من ساكنته مع الفقر والبطالة والظروف المزرية التي لا يمكن حلها إلا من خلال قوانين وتشريعات تؤسس للعدالة الاجتماعية ، فقد عاش الإنسان فاس الجديد على مدا من الزمن حياة هيّنة ليّنة بسيطة وجميلة ، متقبّلا ما يجري به القضاء والقدر خلالها بالرّضا والتّسليم، وإن خالف أهواءه ، لا يصدر عنه إلاَّ الخير، ولا يُتوقَّع منه إلاَّ الفضل ورَوافد اليمن والبركة والنعمة التي يُفيئ بها -قدر المستطاع - بقلب مُفعم بالمحبة ، وهو يردد ولِسان رَطْب بالوُد والمُسالمة قوله سبحانه وتعالى: "فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً " ، الذي كان يحس معه بالطمأنينة والسعادة الغامرة التي تسع الناسَ جميعهم من مختلف أصحاب الدِّيانات والثقافات الأخرى  بتنوِّع أجناسهم المُتفرِّقة ، التي كان يتقاسم فرحتَهم ، ويطرب لسعادتهم ، ويتألم لآلامهم ، ويـتأسى لمآسيهم ، دون تكلُّفٍ أو نفاق أو رياء،  وذلك قبل أن تطرأ على أحواله التغييرات التي أفسدت براءته ، وعقّدت حياته ، واختطفت دينه الأصيل ، ولوثت تديُّنه الصحيح الذي كان لا يكتمل إلاَّ باندماج الرَّبانية في الإنسانية، وقبل أن تُطفئَ هوجة الأسلمة المبتدعة وطوفان شكلياتها  ما كان بدواخله من عشق لجمال الإسلام ، وتعلق بروح الوضاءة وصورته البراقة.

وقبل أن يتشرب أيديولوجيات الجماعات المتشددة/المتطرفة،السلفية والحركات الجهادية والإخوانية، وينساق وراء ديماغوجيات رجالاتها المتنكرين في مسوح المخلصين المصلحين المدافعين عن الدين والقيم الوطنية والمبادئ الإنسانية – بكل ما تحمله من خطابات الكراهية الانقسامية المبعثرة للمجتمعات والمخندقة لها في الهويات المنغلقة "هم ونحن" التي حولت غالبية ساكنة الحي إلى فرائس لاستقطابات القوى الدينية المتشددة التي برهن تاريخها الطويل على أنها جماعات مخادعة، لا تؤمن بالحرية ، وإن ادعت اختيارها ، ولا تنخرط في الديموقراطية إلا إذا استجابت لمصالحها ،وتتجاهلها وتعاديها إذا هي لم تبارك مراميها ولم تحقق مكاسبها بحجة عدم استيعابها أو مناقضتها للدين ، الدين الذي نصب رجالاتها أنفسهم -بدعوى الدفاع عنه-أصناماً متنفذين ونافذين في حياة الناس من أجل تحويلهم إلى قوالب متشابهة مستنسخة من صورة الأصولي السلبي المستلب ، الذي لا يعي ظروفه ولا يفهم أحواله ولا يتدبر أموره ، ويتمسك بالصمت الجبان ويلتزم الحياد المنافق حيالها ، فلا ينتقد، ولا يجابه ، ولا يواجه ، ولا يجهر بالحق ، ولا يسعى لتنمية عقله ، لتغيير واقعه وتطوير أحواله وانقاد وضع مجتمعه ووضعية وطنه، الذي سلمه طائعا لزعامات المذاهب المتشددة المنتمية للزمن الغابر ، المشكل لمرجعيات الحركات الإسلاموية ، التي أغرقته في مستنقعات الجهل والبؤس المعيشي والقهر الأمني والضياع الاجتماعي الصحي والتعليمي والثقافي والسياسي والاقتصادي ، وغير ذلك من الأزمات المجتمعية المفتعلة ، التي اعتمد في تعامله معها على البكاء على الذات وإغراقها في المظلومية إلى أن يتحول إلى إنسان سلبي قاعد أو مقعد،  لا يقصر في الأسى على أوضاعه ، يتحسر ويتأسف ،  يتمزق بين الحزن والإشفاق ، الرغبة والكبت ، يتلظى بين الطموح والعجز ولوم الآخرين وتقريعهم على ما حصل ويحصل له ، ثم سرعان ما يستسلم ويطوي آلامه ويعلقها على مشجب ضغوطات الظروف والإحباطات ، ويذهب طائعا إلى عبوديته الممهورة بأقوال مجهولة منسوبة لله والرسل والأنبياء والملائكة ورجال الدين وشيوخه .

وانتهت الجلسة الشيقة بخلاصة : أن حال حينا فاس الجديد –كما هو حال بقية الأحياء الشعبية عامتها- لم يتغير إلا بعدما بدأ  المتسيسون من رجال الدين باستغلال دين الله للجمع بين السلطتين المدنية والدينية ، وليس لنشر الدين !.